برشت والمسرح
لقد احدثت مسيرته التجريبية وانتقالاته ما بين ولاية وولاية ومعايشته لمختلف الطبقات والتعرف على معظم الانظمة الحاكمة هذه المسيرة التجريبية، احدثت هذه المسيرة التجريبية تطورا في حياته ومسيرته الفنية بعد ان تعرف على انتاجات الكتاب العالميين والمحليين، هذه التاثرات والتي ملئت حياته ولدت لديه انطباعات مختلفة تمخضت عن ردود افعال انعكاسية فكرية ونظرية جعلها اسلوبا لحياته الادبية والفنية، وثورة عارمة ذاتية قبل هجرته من المانيا ضد كل ماهو سائدا في المجتمع الالماني من الظلم والنظرة التي تدعو الى العنصرية والتفرقة، معاناته التي عاشها تمخض عنها رفضا للواقع الذي كان سائدا انذاك مما دعاه هذا الوضع المتردي ان يصبح شخصية متمردة على ذالك الواقع، ونقده له نقدا لاذعا من خلال ماكان ينشره في الصحف والمجلات الالمانية مما جلب انتباه نظام هتلر وازلامه ومضايقتهم له ولانتاجاته الفكرية والادبية، جميع هذا الذي عاشه اختزنه في ذاته مما جعله يؤمن بان التغيير والحداثة في المسرح لا بد منه، ولهذا وبعد عودته الى المانيا واستقراره فيها جعلته هذه المسيرة السابقة لحياته الفنية والادبية ان يفكر باساليب جديدة ليخلق ثورة فكرية عارمة تعبوية تحريضية لدى الشعب الالماني محركا عقله وفكره ويثير النقاشات المنطقية والعقلية منبها اياهم الى الاخطار المحدقة بهم من مخلفات الانظمة النازية السابقة اضافة الى توعيتهم من النظام الراسمالي والمنتهك لحقوق الانسان واجحاف حقه وارادته في الحياة، جاء هذا متضمنا في جميع انتاجاته الادبية وفي اسلوب حديث فيه شيئا من التغيير والحداثة، طرحها بمدرسة ونظرية جديدة اختلفت عن سابقاتها من التجارب التقليدية للمدارس الانفة الذكر، فالوضع السياسي، والوضع الاجتماعي والوضع الاقتصادي جميع هذه الاوضاع جعلته يستعين بالوثائق والصحف التي فيها مقالاته النقدية والفكرية للاستعانة بها وتجسيدها باسلوب عاطفي و تعليمي وملحمي يحاول من خلاله توصيل فكرة الاضطهاد الذي يعيشه الشعب الالماني وتعريفه على الافكار التقدمية الوطنية والتي من خلالها يعمل على انقاذ هذا الشعب من هذه الانظمة والتي لا تخدم مصالح الشعب، وبناءا على هذا الوضع الغير المستقر جعله يتاثر بالمسرح السياسي والفقيرويخفف من الاعتماد على االسينوغرافية الكثيفة للمسرح الواقعي والاعتماد على الممثل الماهر والمبدع والمتسلح بالصوت والالقاء الصحيح والحركات الجسدية والتي تنم عن جمالية الحركة في التكوينات الجماعية والايمائات الرمزية والتي كان يعتمدها بتصويرها للرمز المقصود وعن طريق حركات واشارات الممثلين الرمزية، واما ان الاضاءة المسرحية فكان يكتفي ببعض المساقط الضوئية اللازمة والضرورية لتعمل على استحضار الحالة للجو العام وتوصيل افكار مايعرض الى المتلقي، واحب ان اذكر هنا، ان برشت لم يرفض مدرسة ستانسلافسكي في بادىء الامر، انما استعان بما قدمه استاذ المدرسة الواقعية في التمثيل وبعض البهرجة البسيطة والتمسك بحرمة الجدار الرابع (الجدار الوهمي) في مسرحه، اضافة الى دعوة ممثليه على الاندماج والتقمص في اعماله ضمن هذه الحقبة من فترة مسيرته الفنية والادبية، الا انه عمل على بعض الاصلاحات الحرفية ورفض بعض ماكان يعمل عليه الممثل في المدرسة الواقعية، حيث جاء هذا التغيير بعد هروبه من الماتيا وابتعاده عن مخاطر الاحكام والانظمة النازية، هذا الحال، اضطره ان يعمل في المهجر في السيرك كعامل لمساعدة رواد السيرك من المتفرجين على اختيار اماكن جلوسهم ،حيث جلب انتباهه في اثناء عمله الى ما كان يحدث في العروض البهلوانية من اداء الحركات الكروباتيكية والرياضية الخطرة والتي كان يؤديها بعض البهلوانيين ولواعيب السيرك حيث تركت لديه بعض الانطباعات والتي مهدت لهذا التغيير في مدرسته منها :
- اولا: كان مسرح السيرك خالي من الاضاءة التقليدية كما هو الحال مع الاضاءة المسرحية
- ثانيا: كان مسرح السيرك خالي من الديكور الضخم ومستلزمات الاكسسوارات التي وظيفتها مساعدة المتلقي على ان يتفاعل مع الشخصية والاندماج معها.
- ثالثا: عدم وجود حوار في الاستعراض لالعاب السيرك ليخلق عملية التقمص والاندماج مع المتلقي، وانما الرقابة والمتابعة من قبل المتلقي كان يشوبها شيئا من الترقب والاندماج لما كان يعرض امامهم .
- رابعا: لا وجود للملابس الضخمة والمختلفة الالوان والتي يتقيد بها المسرح التقليدي من اجل مساعدة المتلقي على معايشة الشخصيات التمثيلية وكانها شخصيات حقيقية، بقدر ماكان المستعرض في ملعب السيرك يكتفي بالملابس الخفيفة والبسيطة والتيكانت تسهل له مهمة ادائه لبعض الالعاب الرياضية الخطرة معتمدا على جمناستيكية جسده ومرونته.
- خامسا: لاحظ برشت في عروض السيرك، انعدام كل مقومات وعناصر العرض المسرح التقليدي من الاضاءة والملابس والمكياج والاضاءة المتكاملة الالوان والسينوغرافيا المسرحية، جميع هذا لم يؤثر على اهم عامل من عوامل نجاح العرض هو عنصر التشويق والشد، كان المتفرج في ملعب السيرك يتجاوب ويندمج مع ما كان يعرض امامه ويحبس انفاسه خوفا وذعرا من تادية بعض الالعاب والتي تنم عن خطورة تاديتها والمرافقة مع بعض الايقاعات والمقطوعات الموسيقية المؤثرة.
لعبة كرة القدم ودورها في حياة
برشت المسرحية
عند حضوره لمشاهدة وقائع بعض مباريات كرة القدم جلب انتباهه ملاحظات ادهشته لم تقل عن ملاحظاته في ملاعب السيرك وهو وجود لواعيب كرة القدم من الفريقين الخصمين ليجسدا من خلالهما الصراع في الكر والفر وفي اصابة الاهداف والتي تشد الجمهور المتلقي وتخلق عنده في نهاية المبارات حالة من السعادة او الحزن، اي توصل الى نقطة اساسية من تجربته في السيرك ومشاهدة استعراض لعبة كرة القدم الى ان في السيرك كانت هناك ادوات بسيطة يعتمدها اللاعب في تادية العابه، وجمهور يتابع عرضه ومساحة اشبه ماتكون بخشبة المسرح هي الفسحة الوسطية لتادية عروض السيرك اضافة الى اضاءة بسيطة مكتفية بتسليط بروجكتر فلو لايت، اي بروجكتر متابعة للعرض الذي يؤديه لاعب السيرك، وكذا الحال مع كرة القدم.
مسرح الجاكانو
هذا المسرح والذي اشتهر في اليابان والصين والهند، ولكل موطنه خصوصيته وتجربته وتاريخه، الا انهم اجتمعوا ببعض المقومات الاساسية لهذا المسرح، منها الجوقة والالوان المبهرجة والايماءات الرمزية والتعبيرية والتي كان يؤديها مغني الجوقة ولان طبيعة هذا العرض كان يعتمد على الغناء للدايلوجات الاسطورية، والرقص الفني لشعوب اوطانهم وعكس هويتهم من خلال الملابس وازيائها الخاصة والالوان الزاهية، وكان الجمهور يتابع هذه العروض بتلهف وشد لجميع مشاهد العرض الجاكانوتي، استفاد برشت من اسلوب توصيل الايماءات الرمزية والدلالات التعبيرية، اضافة الى استحسانه اصوات الجوقة ليختزن هاتين الملاحظتين (الايماءات الرمزية، والجوقة بادائها).
مدرسة برشت وموقفه من التقمص والاندماج
توصل برشت من تجاربه الحياتية والتي عاشها في حياته العملية مع المسارح المختلفة الانفة الذكر (السيرك وملاحظاته لكرة القدم، ومسرح الجاكانو) وملاحظة عروضها ومقارنتها بالعروض المسرحية التقليدية ولا سيما في المسرح الواقعي، اكتشف ان بعض المقومات والعناصر الاساسية في المسرح الواقعي كالديكور الضخم، والاضاءة المعقدة والملابس والازياء بتعقيداتها وتصاميمها المكلفة للانتاج والتي قد تاخذ وقتا زمنيا في التنفيذ ليست بذا اهمية لو استغنى عنها في العروض المسرحية، وكذالك شجع الممثلين على ان يؤدون الشخصيات بعيدا عن الاندماج والتقمص وعدم التعامل العاطفي مع المتلقي في العروض المسرحية، بقدر ما يحاولون محاكات الشخصية بحركاتها التقليدية وبعيدا عن
المخاطبة العاطفية مع الجمهور، وان يمثل بشيىء من التقليد والمحاكات للشخصيات وانما بعيدين عن الاندماج والتقمص. وقد ضرب امثلة كثيرة منها كمثال طفل يقلد والده حينما يرتدي ملابسه الضخمة على حجمه ويحتذي حذائه الكبير والضخم، ويعتمر على راسه قبعته وعلى عينيه نظارتيه الكبيرتين، ويرسم شاربا ولحى بقلم المكياج بشيىء من البساطة ويبدأ بتقليد والده وحركاته واسلوب كلامه مما يثير هذا المنظر شيئا من الضحك والسخرية لدى والدي الطفل، وكذالك دور الفتاة وهي تقلد والدتها بكل حذافير التقليد، وبالفعل تنجح في انتزاع اعجاب والديها.
اراد برشت من هذين الصورتين ان يوصل مفهوما لطلبته وهو، عدم الاندماج بكل تفاصيل الشخصية بقدر ما يحاكون عاداتها وتقليدها شكليا وبعيدن عن التقمص والاندماج، ان يكونون ممثلين امام المتلقي وليس شخصيات واقعية حقيقية من على المسرح، وبهذين المثلين استطاع برشت ان يقلل من اهمية عملية التقمص والاندماج للشخصية في مسرحه، وهكذا سيساهمون في كسر الحاجز الوهمي الذي يخلقه الممثل من خلال عملية الاندماج والتقمص ومخاطبة المتلقي مخاطبة عقلانية، اي ان وجهة نظر برشت هو تحريك العقل عند المتلقي اجدى بكثير من مخاطبة عاطفته، ايمانا منه بان العاطفة تقتل العقل عند المتلقي وتمنعه من التفكير ومناقشة مايطرح امامه من الاحداث مناقشة عقلية وقد يتوصل الى نتائج بنفسه هو يؤمن بها لانها استنتاجات ذاتية.
موقف المتلقي والمعنيين بالمسرح من هذا التغيير
استاء المتلقي وبعض المعنيين بامور المسرح من هذا التغيير باسلوب العرض المسرحي والمغاير لاسلوب ستانسلافسكي، مفضلين اسلوب ستانسلافسكي في العروض المسرحية والواقعية، اضافة الى عناصر ومقومات المسرح الواقعي التي تميز به مسرح ستانسلافسكي، الا ان برشت بقي على ايمانه باسلوبه ونظريته في الطرح، فحاول علاج عروضه المسرحية اللاحقة بالرجوع الى ماعليه في مسرح ستانسلافسكي في عملية التقمص والاندماج، انما هو حاول الخروج عن هذا التقمص والاندماج بحالة تغريبية، هذه العملية التغريبية استخدمها برشت كالصفعة التي يصفع بها المتلقي ليوقظه من الاندماج والتقمص مع الاحداث، هي وسيلة وجدها برشت مناسبة لتخدم افكاره المطروحة على المتلقي وهو يستقبلها في كامل وعيه العقلي، وبهذا استطاع برشت بعملية التغريب ان يتعامل مع المتلقي تعاملا عقليا وهو في كامل وعيه، وكذالك عمد على الاختصار من الديكور الواقعي وتخفيف من ضخامته، والاعتماد على بعض مايدل على موقع ومكانة الحدث بشيىء من البساطة، وكذالك التخفيف من الاضاءة المسرحية والاعتماد على الالوان التي قد تخدم عرضه المسرحي، وكذلك اختزال الكثير من السينوغرافيا المسرحية من المستلزمات الكثيرة والمعقدة، والاعتماد فقط على بعض الاكسسوارات والملابس البسيطة والغير الفضفاضة والتي قد تساعد الممثل على التمثيل واضفائها للشخصية هوية تساعد على كشف معالمها الثقافية والاجتماعية.
ادخل برشت الكورس (الجوقة) والغناء الشعري الاوبرالي في معظم عروضه المسرحية حاول برشت ان يعرض ممثلين امام جمهوره وليس شخصيات واقعية، كسر برشت حاجز الوهم مابين الاحداث والمتلقي، اشرك برشت المتلقي وجعله هو جزء من اللعبة المسرحية يناقش احداثها عقليا ومنطقيا وذالك بجلوس بعض الممثلين مع الجمهور في القاعة، اوجد برشت حالة التغريب لتخدمه في ايصال افكاره الى المتلقي وهو في كامل وعيه.
لقد اوجد برشت حالة من حالات التفاعل العقلي للمتلقي مع احداث مايعرض عليه، لتخلق لديه حالة من النقاش مع نفسه حتى وهو على فراش نومه، بعكس ستانسلافسكي في اسلوبه الذي يفضل عملية الاندماج والتقمص وخلق حاجز الوهم وعدم اختراقه لفتحة المسرح (الجدار الرابع)،. عمل ستانسلافسكي على مخاطبة المتلقي مخاطبة عاطفية، تموت هذه المخاطبة الفكرية بعد خروج المتلقي من القاعة وعدم استفادة المتلقي من هذه المخاطبة، لانه وكما هو معلوم ان العاطفة تقتل العقل ولا تسمح للعقل ان ياخذ وظيفته ليناقش ما يطرح عليه وهذا ما يميز مسرح ستانسلافسكي عن مسرح برتولد برشت.