تناولنا سابقا بحوثا تتعلق في كيفية رسم معالم الشخصية عند الممثل، وكيف تتم هذه العملية، وماهي مراحلها في رسم معالم الشخصية عند الممثل، وتعرفنا على الابعاد الثلاثة للشخصية، وعلمنا انها المنهاج الاكاديمي للممثل في اكتشاف جغرافية شخصيته ليستطيع من خلالها تسخيرها على المسرح، او في السينما، او في المسلسلات التلفزيونية.
انها بالحقيقة عصب الحياة لحرفية كل ممثل يرغب الارتقاء الى حرفية اكاديمية فيها من الابداع والتالق كي يتمكن من تجسيد الشخصية ويبدع في تحريكها وعلى ضوء هذه الابعاد، وكما علمنا في مقالاتنا السابقة، وكشفنا عنها، بان هذه الابعاد الثلاثة والتي تعني برسم معالم الشخصية هي:
البعد الطبيعي،
البعد النفسي،
البعد الاجتماعي.
انما نحن الان وفي هذه المرة سنتناول علاقة كل من هذه الابعاد مع بعضها ومدى تاثيرات كل منها على الاخرى، كي نتمكن من استنتاج الرسم الحقيقي للشخصية والجغرافي لكل حالة من هذه الحالات، اضافة الى هذا سنتعرف على مدى تاثير كل منها بالاخرى وعلاقتها مع الشخصية والتي ستتوضح صورتها الجميلة والمبدعة في التجسيد وكل منها وبموجب متطلبات الاحداث واسباب وجودها بهذه الصيغة التي اراد لها المؤلف ان تظهر وتتجسد للعيان، فمثلا، لنتناول شخصية الفنان القدير المرحوم:
خليل شوقي في مسلسل النسر
وعيون المدينة
لو عدنا بذاكرتنا الى هذا المسلسل واسترجعنا شخصية قادر بيك، والذي ابدع كل الابداع في تجسيد هذه الشخصية الفنان القدير والرائد خليل شوقي، ولاحظنا بعده الطبيعي كخليل شوقي وقارناه مع شخصية قادر بيك، لاكتشفنا ان هناك تطابقا متشابها في الطول.
وقد يكون ايضا في الوجه وكما كان مرسوما في ذهن كاتب النص الاستاذ عادل كاظم، انما هذا لا يكفي ان كانت هذه الرتوشات الحقيقية لشخصية الفنان خليل شوقي في البعد الطبيعي والتي قد تساعده على تجسيد الشخصية واخفاء شخصيته الحقيقية عن الانظار والاستعارة بشخصية قادر بيك والتي تملك تشابها بمواصفات البعد الطبيعي لشخصية الممثل خليل شوقي من حيث الطول والوجه، فلربما يعتبر هذا التشابه هي المرحلة الاساسية والاولية التي كانت مرسومة في خيال الاستاذ عادل كاظم كاتب النص والتي قادته لاختيار الفنان خليل شوقي ليجسد شخصية قادر بيك (في بعض الاحيان يحق للكاتب الاقتراح على المخرج في اسناد بعض الادوار لبعض الممثلين والذي يراهم اقرب الى الصور المرسومة في خياله، وهذا قلما يحدث).
ولكن ايمكن لممثل مثل خليل شوقي ان يكتفي بهذه المواصفات للبعد الطبيعي والتي حددها له كاتب النص لتجسيد هذه الشخصية ويسخرها في حرفيته كممثل وينتظر النجاح من خلال هذا الاكتفاء؟ ايمكن بهذه المواصفات التي اكتسبها للشخصية ومن خلال شرح ما بين القوسين تمت تدوينها من قبل كاتب النص لتساعده على الابداع والتالق في رسم معالم هذه الشخصية، فسيأتينا الجواب بالنفي، لان الفنان الاكاديمي والذي يعرف كيف يشق طريقه الى النجاح في رسم معالم شخصيته لا يكتفي بجغرافية ما بين القوسين والتي دونها كاتب النص لرسم معالم الشخصية، اذن ما الحل؟ معظمنا تابع احداث مسلسل ( النسر وعيون المدينة للكاتب المبدع عادل كاظم واخراج المخرج المتالق المرحوم الفنان ابراهيم عبد الجليل ) وتابعنا من خلاله شخصية قادر بيك ولاحظنا معالم الشخصية كيف كانت مرسومة بحرفية جميلة فيها من التالق والابداع، ولربما قد يكون لملاحظات المخرج في بعض الاحيان سببا في هذا النجاح، ولكن المعروف عن الفنان الاستاذ خليل شوقي انه فنان اكاديمي الحرفة لا يكتفي بملاحظات المخرج فقط وانما سعى هذا الفنان المقتدر في اكتشاف معالم الشخصية من مقومات والعناصر الاساسية التي تدخل في تشريح معالم الوجه والجسد واستثمارهما في رسم معالم شخصية قادر بيك واستطاع بحرفية ذالك المبدع الاختفاء عن انظار المتلقي كشخصية خليل شوقي لتحل محلها شخصية قادر بيك، طبعا وهنا تلعب تجربة وخبرة الممثل في رسم ابعاد الشخصية واكتشاف تاثيرات الابعاد الواحدة على الاخرى (البعد الطبيعي والبعد النفسي والبعد الاجتماعي) ليتمكن الممثل من رسم شخصية جديدة له تتفق مع معالم الشخصية الجديدة والمراد تمثيلها وتجسيدها وفق هذه الابعاد وبالشكل الناجح بعيدا عن الملل والتكرار لشخصيات متشابهة مثلها عرضت في مسلسلات غيرها حرصا من الممثل على ديمومة المواصلة والمتابعة من المتلقي لشخصيته المتكاملة الابعاد.
لنتابع حديثنا عن شخصية قادر بيك، فبعد ان وجدنا الاساسيات في التشابه مابين الشخصيتين (خليل شوقي وقادر بيك) اي شخصية الممثل والشخصية المراد تمثيلها، ودراستنا وتحليلنا لواقع الشخصية، من هويتها وطرازها ونمط حياتها وحركاتها والمتلازمات من العاهات الجسمانية (اللكنة الحوارية) والتي جعلت منها هوية لهذه الشخصية لتصبح له لا زمة له احبها الجمهور المتلقي، وهذا ايضا حدث مع الفنان القدير والرائد المرحوم الاستاذ جعفر السعدي في المتلازمة الحوارية والتي ابدع فيها (عجيب غريب امور قضية). كذلك اضاف الفنان خليل شوقي ابداعا الى شخصيته ومن خلال اسلوب تكلمه وكيفية نطق الكلمات ومخارج حروفها من عملية المد والمط للاحرف الممدودة بشكل يسترع الانتباه لشخصية مليئة بالخوف والحذر من المحيط التي تعيش فيه مما تعكس مثل هذه الصورة للشخصية عدم الثقة والاطمئنان للعلاقات مع هذا المحيط الذي يعيش في وسط اجوائه.
اذن فبعد الخطوة الاولة للممثل الجيد في اكتشاف معالم البعد الطبيعي لشخصيته وبما مرسوم لها، هنا تبدأ تاثيرات البعدين الاخرين (البعد النفسي والبعد الاجتماعي) لتحديد نمط واسلوب الشخصية في تحركاتها وتعبيراتها ونظراتها، اضافة الى تجسيد المشاعر الداخلية والاحاسيس نتيجة ردود الفعالها والمتطابق مع شكلها الخارجي وعلاقاتها مع الواقع الذي تعيشه. ان قادر بيك يعيش الوحدة وبعيد عن العلاقات الاجتماعية الانسانية، وهنا تلعب غرائزه الجنسية وحبه لتبادل العواطف مع الغانية اللعوب والتي لعبت شخصيتها الفنانة القديرة المرحومة مي جمال، انما كان حبه للمال والاحتفاظ به احرص من تبذيره على ملذاته، وحتى كان يتعامل مع الامراة الغانية بحذر وخوف حرصا منه ان لا يبدد من ماله عليها، حتى لو دفعه الامر للاستغناء عن صداقتها له.
لناتي ونتناول المقارنة ما بين الابعاد الثلاثة لشخصية قادر بيك، ونشخص اهم الملاحظات والتاثيرات التي طرات على كل منها ومن خلال تاثيرات الواحدة على الاخرى.
البعد الطبيعي لشخصية قادر بيك:
اولا : طويل القامة، نحيف البنية، بطيىء الخطوات، نظراته فيها شيئا من الخوف والحذر، يمتلك من الشكوك بعلاقاته مع محيطه من البشر، نطقه فيه شيىء من الميوعة والمد لاحرف المد، صوته يملك من نبرات الضعف والتخنث مما يدل على انه ترعرع في اجواء العز والدلال.
البعد النفسي لشخصية قادر بيك :
اولا: يعيش حالة من القلق يعيش حالة من الخوف، يعيش حالة من التوتر ، متوتر الاعصاب، يعاني من ضيق النفس للحالة النفسية التي يعيشها، مبتعد عن المجتمع، وجهه دائم الكابة، قليل الضحك والابتسامة، شارد البال والفكر، لا يعجبه الاحتكاك مع المجتمع قليل الصداقة الا مع من كانت لديه مصلحة شخصية معه.
البعد الاجتماعي لشخصية قادر بيك:
اولا: قليل الاحتكاك بالاخرين، غير متزوج، ثري، متعلم اي يعرف القراءة والكتابة، غير اجتماعي، غير ودود للاخرين، لا يهمه من الدنيا سوى الحفاظ على ثروته والعمل على زيادتها، غير مبذر، اي اقتصادي اكثر من الطبيعي. لو نقارن تاثيرات هذه الابعاد فيما بينها، لوجدنا ان هناك تاثيرات البعد النفسي على البعد الطبيعي وعلى البعد الاجتماعي، وهذا ما يتجسد من خلال الشكل المرسوم للشخصية من قبل الفنان خليل شوقي ومسخرا لها لتلعب دورها بين الاحداث وبشكل فيه من الابداع ومهارة الحرفية التي تالق من خلالها الفنان المبدع خليل شوقي رحمه الله ،واضاف لها من لدنه مما عنده من الخزين الحرفي في عملية التمثيل والانطباع الذاتي التي كان يملكه لتجسيد مثل هذه الشخصية ونموها وتكامل صورتها الفنية وعلى ضوء هذه التاثيرات والمؤثرات فيما بينها، ولهذا كنا نلاحظ طريقة كلامه وصوته والذي كان يشوبه شيئا من الحذر والخوف حتى من محيطه، وقد نجح في تجسيد هذا، وحتى بعلاقته مع ذالك الانسان البسيط (قاسم الملاك) كان يتعامل معه بحذر وشك، ولهذا كان يصب شحنات غضبه عليه وعلى رفيق حياته الفنان المرحوم (سليم البصري) وبشيىء فيه من دقة رسم معالم الشخصية وقد جسد من خلالها تذمره من المجتمع معتقدا بعدم محبتهم له، وحتى الذين يقدمون له شيئا من الحب والاحترام يعلل ذالك الحب والتقدير لثراه وطمعا في ماله، بعكس الصورة التي جسداها كل من الفنان قاسم الملاك والغنانة القديرة سناء عبد الرحمن بائعة الباقلاء والفاقدة البصر والتي احبت بقلبها ومن دون ان تتعرف على حبيبها الا من خلال احاسيسها التي خلقت ومن خلال البعد النفسي علاقة حب مع حبيبها الفقير لتنتقل الى البعد الاجتماعي بعد الزواج من حبيبها وتعيش تحت قناعة هذه الحالة من الحياة الزوجية وعلى ضوء ضروفهم البسيطة والمبنية على علاقة حب طاهرة ومودة تسودها من صفاء الود وراحة البال والاستقرار الاجتماعي ، بعكس شخصية قادر بيك والذي كان مليئا بالخوف والحذر وعدم الاستقرار في المحيط الاجتماعي ، وهذا ما تمخضت عنه الدراسة المستفيضة للشخصية من قبل الفنان القدير خليل شوقي.
واخيرا وبعد شرحنا تاثيرات الابعاد الثلاثة وتداخل كل منها مع الاخرى و بقي لنا ان نتعرف على البعد الاجتماعي وتاثر هذا البعد من خلال البعد الطبيعي والعد النفسي، حيث بقي قادر بيك اعزبا وغير متزوج خوفا من اسراف المراة وبذخها على ما تحتاجه من الملابس والمكياج وحتى الاسراف من طهي الطعام، بحيث انه كان يكتفي بوجبة بسيطة من الطعام وشيئا متواضعا من الملابس.
يأتي التحول الاخر من تغير في الشخصية بعد اصابته بالشلل النصفي وبراعة الفنان خليل شوقي في رسم معالم هذا التغيير والذي شمل ابعاده الثلاثة لمرحلة شابها الدقة في تجسيد هذه الشخصية بمعالمها الجديدة لهذه المرحلة من حياة شخصية قادر بيك، حيث ابدع ابداعا فيه من جمالية التجسيد والتفسير للشخصية وعلى ضوء المتغيرات الجديدة لمعالم الابعاد الثلاثة.
هذه الشخصية الصعبة الاداء من حيث التمثيل ليعطي صورة فيها من جمالية التعبير لشخصية مركبة والتي استطاع هذا الممثل القدير لعبها بمهارة وحرفية ذالك البارع المقتدر من اجل ان يعطي نموذجا اكاديميا في كيفية دراسة الشخصية وبموحب ابعادها مجسدا من خلال هذا التحسيد تاثيرات كل منها على الاخرى بشكل علمي وحرفي وفيه شيئا من الابداع والتالق والنجاح.