العديد من مشاهير العالم، اضافة الى اختصاصاتهم المهنية لديهم مواهب ابداعية خلابة ساهمت في اغناء انشطة العالم الثقافية والفنية اضافة الى المهنية، وشاعت اسمائهم واصبحت من الكواكب المتلألئة في عالم الثقافة والفن من خلال مسيرة مليئة بالعطاء ومواكبة الحركة الفكرية والثقافة العالمية مرسخين تجاربهم بمدارس ومذاهب فيها من التطور والحداثة والابداع. وقد جاءت هذه الملكة لمواهبهم نتيجة تفاعلاتهم مع حركة التطور في عموم الحياة الواقعية مما ولدت لديهم حالات نفسية متأثرة بردود افعال خارجية اثرت من خلال تلقيهم ما كتبه الكتاب الاخرون والذين سبقوهم في التجربة ساهمت في صقل مواهبهم وغيرت من مسار حياتهم المهنية، ليسيروا مع مواكب الثقافة والفن ليصبحوا من مشاهير العالم والامثلة كثيرة فأستاذنا الكبير برتولد برشت، ومثله تشيخوف، كانوا يمتهنون الصيدلة والطب الا ان مواهبهم ساقتهم لامتهان حرفية التمثيل والكتابة والاخراج المسرحي.
مشاهير الثقافة والفن وماضيهم المهني
وكذلك في عالمنا العربي العديد من مشاهير نجوم الثقافة والفن ممن تركوا مهنهم الاصلية وتجهوا الى احتراف الفن واصبحوا من النجوم اللامعة الذين تركوا لمسات فنية في مسيرتهم، وساهموا من خلالها في تطوير حركة الثقافة العربية والفن في السينما العربية والمسرح والمسلسلات التلفزيونية ومنهم:
- الدكتور العراقي علاء بشير، انه طبيب اخصائي في جراحة التجميل، الا انه في الوقت نفسه فنانا تشكيليا له مدرسته الخاصة والتي لا يجاريها اي فنان اخر.
- الفنان يحيى الفخراني، كان طبيبا قبل امتهانه لحرفية التمثيل.
- الفنان عزت ابوعوف، والذي اسس فرقته الفنية مع شقيقاته باسم فرقة ابو عوف كان يمتهن الطب قبل احترافه للفن.
- الممثل الكوميدي الراحل فؤاد خليل، ايضا كان يعمل طبيبا قبل دخوله للفن.
- كمال الشناوي، كان مدرسا لمادة الرسم قبل اشتهاره في حرفية التمثيل.
- عبد الحليم حافظ، كان مدرسا للموسيقى وجاء فصله بناءا على كثرة غياباته بوظيفته، انما الحظ ساقه للشهرة ليصبح نجما من نجوم الغناء والتمثيل.
- محمود مرسي كان مدرسا للفلسفة، ومن ثم اتجه للاخراج ومن ثم للتمثيل.
- السيناريست الراحل انور عكاشه، كان يعمل مدرسا للفلسفة ومن ثم اتجه للسينما،
- الفنان دريد لحام، كان مدرسا للكيمياء.
- الفنان فريد شوقي، كان موظفا في مصلحة المساحة.
- احمد مظهر، كان ضابطا من تنظيم الضباط الاحرار قبل امتهانه للفن.
- احمد السقا، كان لاعب كرة في نادي الزمالك.
- الراحل الفنان نوري الشريف، ايضا كان لاعبا لكرة القدم قبل امتهانه لحرفية التمثيل.
وعليه فان كاتبنا العبقري انطون تشيخوف، لا نستغرب كونه كان طبيبا واديبا في الوقت نفسه، حيث اشتهر في كتابة القصة القصيرة اضافة الى الروايات والنصوص المسرحية التي ساهمت في تطوير مسيرة العديد من المثقفين ولاسيما المسرحيين من خلال مسرحياته المتميزة والتي كان لها دورا كبيرا وبارزا في تطوير الحركة الثقافية والفنية حيث عد من افضل كتاب القرن العشرين قاطبة، لقد تميزت نصوصه بشخصيات يكتنفها بعض الغموض من خلال مزجه ما بين الواقعية والرمزية في بعض نصوصه والتي نالت شهرة عالمية وعلى نطاق واسع ولا سيما في عالمنا العربي. ان تشيخوف وكتاباته كان لها الاثر في تغيير العديد من اتجاهات بعض الكتاب العالميين اعجابا به،
اضافة الى تأثيراته الكبيرة في الدراما الحديثة، ولهذا اعتبره معظم النقاد انه رائدا من رواد تطوير الدراما الحديثة ضمن تلك الفترة الزمنية ومازالت تأثيرات نصوصه على حركة الادب والثقافة العربية متأثرين بمضامين ما كان يطرحه وبأسلوب بعيد عن التقليدية وانما كان يبتدعها من عبقرية افكاره ويصبها في قالب فني وادبي يعالج من خلالها بعض الظواهر المدانة منتقدا العادات والتقاليد البالية، من خلال رؤية صائبة مليئة بالقيم الفكرية المساندة للطبقة المسحوقة من الشرائح الاجتماعية، ليدافع عنها وعن حقوقها المهضومة.
تشيخوف والرمزية
لقد تميزت كتابات تشيخوف بتحرير الروح من قيودها داعيا الى حرية التعبير من اختياراته للأحداث الواقعية والتي يقتنصها من الواقع الاجتماعي، ويعالج مشاكلها من خلال نظرة انسانية معتدلة وبأسلوب ابداعي تمتزج بين الواقعية والرمزية، ولعل العديد من النقاد لم يكتشفوا هذا الاسلوب، ولكنني ومن خلال اطلاعي على نص مسرحية العنبر رقم 6 توضحت لي صورة جمالية ممزوجة بتعبير فني حاذق، هذا العنبر الذي هو عبارة عن ردهة في مستشفى الامراض النفسية، فيه مجموعة من المرضى الذين ذاقوا مرارة عذاب الحياة خارج العنبر، هذه الحياة الغير المستقرة والمليئة ظلما واستعبادا للإنسان ومما دعتهم هذه الظروف للمقاومة رغبة منهم في تحقيق المساوات والعدالة الاجتماعية، الا انهم لاقوا من القمع والاضطهاد مما ادى بهم الى احتجازهم في هذا العنبر واعتبارهم افرادا مجانبن فيهم مس من الجنون، هذا العرض الاستهلالي لمقدمة مسرحية العنبر ولقد عالج احدثها تشيخوف باسلوب واقعي ومنطقي فيه من براعة الحبكة والصراع ما بين طبقتين الاولى مهضومة الحقوق، والثانية طغمة فاسدة غرضها قمع صوت الالاف من الجياع والمهضومة حقوقهم، الا ان براعة تشيخوف للتعبير عما يؤمن به، في مشهد من داخل العنبر يحاول توجيه رسالة الى المتلقي فيها حالة من حالات التعبئة الثورية والدعوة الى الثورة ضد الظلم والاستبداد، تجلت في صورة رمزية في العنبر الذي يمثل نموذجا من المضطهدين الذين وقعوا تحت هيمنة حارس العنبر الذي لا يعرف طعما للعرف الانساني، نموذجا يحركه تبعيته لأزلام من يوجهونه من المسؤولين عن ادارة هذا العنبر، والذي يلاقي تصدي قويا ونقدا لتصرفاته الغير الانسانية بحق نزلاء هذا العنبر من قبل الطبيب والخاص للأشراف على التطورات الصحية لنزلاء هذا العتبر، نتيجة لهذا الصراع ما بين الطبيب والذي يمثل الشريحة المسحوقة، وبين الحارس الذي يمثل السلطة الهاضمة لحقوق نزلاء هذا العنبر. وهنا يبدأ تشيخوف بتنمية الصراع ما بين الحارس والطبيب، مما يؤدي به الى لصق حالة الجنون بالطبيب والذي ينتج عن هذا الاتهام حبس الطبيب في العنبر مع بقية النزلاء واعتباره مجنونا اسوة ببقية نزلاء هذا العنبر، وبهذه التصفية للطبيب والذي يرمز له للفكر السياسي الحر، يخلو الجو للحارس بان يمارس انواع التعذيب بحق نزلاء العنبر. لقد كانت نظرة تشيخوف الى المجتمع بانه تحت وطأة طائلة من الامراض الوبائية والفتاكة، ولهذا يجب على الانسان ان يكون طبيبا لإنقاذ المجتمع من الامراض الوبائية من خلال وضع حد لمنع انتشار هذ الوباء الذي فيما اذا استمر في انتشاره فسيقضي على المجتمع ولاسيما الشريحة من العوائل الفقيرة والمسحوقة.
حياته الاجتماعية
لقد ولد هذا الكاتب سنة 1860 في مدينة تاغاوغ، هذه المدينة اشتهرت باجوائها البحرية لوقوعها على ضفاف بحر ازوف جنوب روسيا، حيث كان الابن الثالث من بين اخوته لاب مسيحي ارثوذكسيا قاسي القلب امتهن التجارة ليعيل ابنائه الستة، لقد اشتهر انطون تشيخوف ومنذ صغره بحبه للمسرح، حيث انه بدأ بتشكيل فرقة صغيرة متكونة من اخوته وابناء حيه ليعرض بعض المسرحيات الكوميدية لأطفال اهل محلته، اضافة الى انه حينما كان طالبا في الصف الثالث الابتدائي اشتهر بتعليقاته الساخرة على اصدقائه من التلاميذ وتقليد اساتذته باصواتهم وحركاتهم مما كان يثير اعجاب اصدقائه وزملائه من الطلبة، فمن هنا برزت موهبته في التمثيل مما دفعه هذا الحب وعشقه للمسرح الى متابعة العروض المسرحية ومشاهدتها، هذا العشق ساقه لمشاهدة عرض اوبرا (هيلين الجميلة) والذي ساهم في وضع الحانها الموسيقار باخ، وبقي متواصلا على مشاهدة العروض المسرحية وجلوسه في نهاية مقاعد الصالة لانخفاض سعر تذكرة الدخول والذي كان يوفره من تجميع مصروفه ليتمكن من ارتياد المسارح ومشاهدة عروضها المسرحية. ساقه حب المسرح الى ان ينظم مع اعضاء فرقة لمسرح الهواة ويعمل معهم في المسارح ذات الامكانيات المحدودة والتي اعتمدت في عروضها على النصوص الشعبية والمحلية مما دفعه هذا الى كتابة مسرحية طويلة في باكورة سنه حيث كانت التجربة الاولى في شروعه للكتابة.
هذا الكاتب المتواضع والمتفائل للحياة كانت لديه نظرة وهي:
على ان الانسان يجب ان يستفيد من تجارب الاخرين ويقارنها مع تجاربه ليخرج بتجربة جديدة تساعده وتساعد الاخرين على اختصار الزمن في اكتساب الثقافة وتسخيرها لخدمة الانسان والمجتمع ولهذا كان يؤمن (كلما كان الانسان اكثر تطورا وتفكيرا وغوصا في دقائق الامور، اصبح اقل جراة واكثر وسوسة واشد وجلا في التصدي للمسألة، وبالفعل لو امعنا التفكير، فاية شجاعة وثقة في النفس ينبغي ان تكون لدى المرء لكي يقدم على تعليم الاخرين والحكم عليهم ومن ثم يقوم بتاليف الكتب السميكة). كانت نظرته للحياة نظرة تفائليا وعلى الانسان ان يستفيد مما حوله من عطاء الطبيعة للانسان وان يبدا الانسان ان يعطي للحياة نموذجا للحياة السعيدة والتطلع الى الحرية التي تجعله العيش مع المجتمع من خلال نظرته الى لغة الصمت التي تولد لدى كل انسان انفجارا ياتي من الاحاسيس الداخلية والمعاناة من خلال قساوة الحياة ومن الطغمة الفاسدة والذين يشوهون مناظر الطبيعة وعطائها للانسان بما تنتجه بالشكل الطوعي، ولهذا قال (وعموما فالكلمات مهما كانت جميلة وعميقة فانها لا تؤثر الا في ذوي النفوس اللامبالية، ولا تستطيع دائما ان ترضي السعداء او التعساء، ويبدو ان اسمى تعبير عن السعادة هو الصمت). لقد تميزت كتابات نصوصه المسرحية والقصصية بشخصوص اهتم في بنائها الداخلي حيث انه كان يدخل في عمق الانسان الداخلي ويبحث عن المشاعر والاحاسيس الداخلية ويشخص الظواهر المدانة في المجتمع والتي هي السبب في تحرير هذه المشاعر الانعكاسية الداخلية والمتاثرة بهذه الافعال الخارجية، انه كان يهتم بسايكولوجية الانسان ويعتبرها هي الاحاسيس الصادقة ومقياسا لردود افعال كل انسان يتفاعل مع الافعال الخارجية سلبا كانت ام ايجابية ويؤمن بان الانسان يجب عليه ان يتعرف على الاحاسيس الصادقة لكل فعل يعمله، اي الاهتمام باحساس الفعل وليس بالفعل ذاته، ولهذا قال: (نحن لا نعيش لنأكل، بل لنعرف ما هو احساس تناول الطعام).
تشيخوف والواقع
كان تشيخوف يكتب كتاباته وهو يعيش واقعه وواقع الاخرين من اللذين ذاقوا مرارة الاقطاعيين في تعاملاتهم الغير الانسانية ، كان عبارة عن خزين لصور الماضي المأساوي الذي عاشه من خلال قسوة والده بعد افلاسه وتدهور حالتهم المعاشية مما اظطره واقع هذا الحال للعمل من اجل اعالة اخوته وهو يعيش الم الحرمان مما كان يحلم به منذ طفولته وحتى في شبابه الذي لم يكن يتوقع من مداهمة المرض له ( السل ) وهو لم يبلغ من العمر الثالثة والعشرين ، جميع هذه المعانات اضافة الى تاثره بحكايات والدته الروائية جعلت منه خزينا مكتسبا لصور الواقع الذي عاشه ولهذا تمثلت في معظم كتاباته والتي لم تولد من وحي خياله مثلما يعتقد البعض وانما جائت من خلال واقعه المرير ، واعاد اشباح تلك الصور المأساوية في حياته ونسجها في قالب نص مسرحي او قصصي مجسدا الصور الحقيقية لذالك الواقع المرير باسلوب واقعي يشوبه شيئا من جمالية الطرح ان كان طرحا مسرحيا ، والسرد الحسي والجمالي ان كان روائيا او قصصيا .
كان تشيخوف ينظر الى واقعية الانسان المتدنية نتيجة الظروف المحدقة به ، ويتاثر بها محاولا ايجاد البدائل من خلال طروحاته الفلسفية والافكاروالقيم الانسانية التي كان يؤمن بها ويتبناها في الوقت نفسه محاولا نقل حياة الناس البسطاء الى المسرح او من خلال القصة في معالجة كان يراها صائبة لدعم قضايا الانسان ضمن مراحل حياته ويتاثر بواقعيتها ، حيث كان في بداية كتاباته يؤكد على الواقعية بشكلها التقليدي وينقلها الى المسرح بشيىء من جمالية التعبير مشاطرا اياه في هذا الاسلوب ليون تولستوي ، وقد جاء هذا من رغبة كل منهما بمراقبة الحالة النفسية التي يعيشها الانسان ضمن واقعه الظرفي ومؤكدا على بعده النفسي في جميع شخوصه ان كانت في المسرح او الرواية والقصص القصيرة ومن ثم محاولا مع هذا التجسيد ايجاد تبريرا لافعالها
واعطائها المصداقية فيما تطرحه من الافكار وعن لسانها نتيجة معاناتها ومما يحيطها من المشاكل والعقد الاجتماعية ومن ثم يتم تجسيدها بصورة واقعية على المسرح ، ولهذا نالت معظم كتاباته من النصوص المسرحية والقصصية اعجاب العديد من المثقفين والادباء في روسيا والعالم اجمع بعد ان ترجمت نصوصه الى اللغات العالمية والعربية ومنها :
* بستان الكرز
* ايفانوف
* النورس
* العم فانيا
* اغنية التم
* ضرر التبغ
* الشقيقات الثلاث
* فاوست ، والتي كتبها في بادىء الامر كرستوفر مارلو ومن ثم لويجي بريندلو واخيرا تشيخوف ، وكل منهما صب فيها من تجاربه ومعاناته وخبرته وثقافته ،
حيث تحولت معظم كتابات تشيخوف الى عروض مسرحية وسينمائية وتلفزيونية .
كان اهم مايميز كتاباته هي تنوع شخوصها ،حيث اتسم قسم منها بالغموض والقسم الاخر تجلت فيها جمالية الحوار داعية الى دعوة الانسان على تحمل مسؤولياته باتجاه اي عمل يسند له ، او الاصرار باتجاه تحقيق اي هدف مرسوما لحياته، وهذا ماتجسد في شخصية ماريانا الام في مسرحية ( العم فانيا ) وتارة نشاهد انعكاسات صوره الحقيقية وانطباعاته السلوكية والحياتية وردود افعاله الانعكاسية من خلال مشاعره واحاسيسه من الواقع الذي يعيشه متجسدة في شخصيات رواياته وقصصه القصيرة ونصوصه المسرحية .
لم يكن يعرف اليأس بقدر ما كان صبورا وذو عزيمة وارادة قوية جسدها من خلال العديد من مسرحياته للوصول الى طموحاته واهدافه المرسومة ضمن مخططاته ، لم يكن يبالي بانتقادات بعض زملائه او اصدقائه بقدر ما كان يتعامل مع مايؤمن به ايمانا حقيقيا ، متحديا كل الظروف الصعبة ومحاولا تذليلها من اجل الوصول الى اهدافه وتحقيقها ، هذا ماجاء في مسرحية ( النورس ) والتي كانت اولى تجربته في كتابة مسرحياته الاحترافية في سنة 1895 والتي بلغت مدة تمارينها ما يقارب السنة ومن بعدها عرضت في سنة 1896 .
الرمز في مسرحية طائر النورس
حينما تبدأ موهبة الانسان بالنضوج ، اي بعد اجتيازه عدة حالات اختبارية حياتية وذاتية ، واطلاعه على تجارب الاخرين والتاثر بها قد يضيف عليها مما عنده او قد يرفضها لاحساسه بان مالديه هو افضل مما موجود من هذه التجارب عند الاخرين ، ولهذا ومن خلال ماتمليه عليه موهبته يشرع في تجسيدها واظهارها ، ان كانت في الكتابة او في الرسم او في الموسيقة وغيرها ، ومن دون علمه في هذا التحسيد انه قد ينفرد بمدرسة ما ، او باسلوب جديد يتميز به عن اقرانه ، ومن ثم سيكون صاحب مدرسة حديثة ومتطورة في الاسلوب ينسب لها فيما بعد ، والعديد من الادباء المثقفين وضمن المراحل السابقة من الزمن حينما شرعوا في كتاباتهم ، لم يدركوا انهم سلكوا مدرسة من المدارس العالمية بقدر ما ساروا على خطاهم والتي تطورت من وحيي الرؤية والملكة الابداعية والتي ترجمت على ارض الواقع لتشكل في حياتهم ميزة تميزهم عن اقرانهم وتنسبهم الى مدرسة من المدارس العالمية كالواقعية والرمزية والتعبيرية والطبيعية والوجودية ------- الخ .
والعديد من مشاهير الكتاب كانوا يستعينون في نصوصهم رموزا للتعبير عن افكارهم وتجسيدها من خلال هذه الرموز ، وكذا الحال كان مع تشيخوف في مسرحية طائر النورس ، هذه المسرحية جسدت فكرة الموت عند بطل المسرحية من اجل حبيبته فيما اذا هي لم تستجيب لحبه ، حيث انه كان ابنا لاحدى الممثلات والتي احيلت على التقاعد لكبر سنها ويلوغها سن الشيخوخة والتي كانت حائل مابينها وما بين القيام بمهنة التمثيل ، كان لها ابنا تاثر بفنها واصبح يعشق التمثيل والذي لم يثنيه انتقادات وسخرية والدته من موهبته عن مواصلة مسيرته ، بل زادته عزيمة واصرارا على المسير في خطواته للوصول الى اهدافه التي كان يحلم بها ، الى ان اصبح كاتبا مشهورا ، وشائت الظروف ان يتعرف على فتاة احبها تدعى نينا ، انما لسوء حظه لم تبادله نفس المشاعر وبالرغم من محاولاته العديدة والحوم حولها واغرائاته بانواع الكلام الحاذق والوصف لها باوصاف فاق حدود جمالها الا انها لم تذعن لحبه ، فاظطره واقع هذا الحال لاصطياد نورسا ويذبحه ليقدمه لها تقديسا واجلالا لها واكراما لحبه لها ، حيث اخبرها ان هي لم تبادله الحب فسيقدم على الانتحار والموت كطائر النورس ، الا انها لم تذعن لتهديدات العاشق الولهان ولم تبالي بنواياه في الانتحار ، وتمضي السنين واذا بهذا الكاتب يصبح من الدرجة العالية من الشهرة وتبقى هي على نفس الحال من المستوى المتواضع في فنها بالكاد ان يشار لها بالبنان .
لقد استعمل تشيخوف في هذه المسرحية النورس رمزا لشخص البطل في فشله من كسب محبة محبوبته ، هذا الرمز ( النورس ) زاد من عمق تجسيد الفكرة التي اراد توصيلها الى محبوبته فيما اذا لم تبادله نفس المشاعر .
لقد جسد تشيخوف حالته النفسية ومشاعره الانسانية في هذا النص الذي جسد فيه مشاعر الحب والاحاسيس الصادقة والفشل الذي اصابه من عدم نجاح محاولته لاستمالة حبيبته له لم يثني عزيمته عن تواصله مع الحياة ، لانه كان اقوى من استسلامه للهزيمة والفشل ، واقوى من ان تذله فتاة في تجربة حب كانت نهايته الفشل ، فكان صاحب ارادة قوية وصاحب قرار في معالجة شتى المواضيع ومنها الحياتية ، حيث واصل مسيرته في الحياة الثقافية الى ان وصل الى قمة الشهرة وسخر من فشل حبه من حبيبته نينا .
الشقيقات الثلاثة
هذه المسرحية من اربعة فصول جسدت اهتمام تشيخوف بالمضمون الانساني للانسان ، والنابع من الروح الداخلية والتي هي مبعث المشاعر والاحاسيس الوجدانية ، مكتفيا بالبعد الطبيعي للشخصية للتعبير عن دلالة بعض الرموز الحركية للجسد ، لقد حاول فبالرغم من مظهر بساطة طرحه لعروضه المسرحية ، انما كانت تخفي صعوبة تفسير شخصياتها لاكتنافها بعض الغموض الذي لا يفسره الا الذي يعرف خفايا تشيخوف واسرار ذاته وحقيقة طروحاته ، وهنا تكمن عظمة مسرحياته ولا سيما الناضجة منها حيث كان يستعرض مظاهر شخصياته بتفاهاتها وبعض عاداتها وسلوكياتها والتي كانت واقعة تحت طائلة من انتقاداته لها في ماكلها وطريقة جلوسهم واحاديثهم الفارغة والتافهة ، مؤمنا بان القدر هو الذي يلعب في تغيير حياة الانسان ومستقبله ، وكما حدث في عائلة برسوروف حينما تم اللقاء مابين الشقيقات الثلاثة واخيهم اندريه بعد عام واحد من وفاة ابيهم .
لقد حاول تشيخوف السخرية من حياة وخصوصية واقع بعض الحالات الانسانية وانتقاده لها ، محاولا تقوية عزيمة اصحابها وتكييف انفسهم على العيش مع هذه المعوقات وارشادهم للبدائل والتي من شانها ان تساعدهم على اجتيازها ودعوتهم للتمتع بجمال الطبيعة والعلاقات الانسانية المبنية على المحبة والالفة والتي يجب ان تسود مابين افراد المجتمع والذي يعني له الاسرة البديلة للاسرة الحقيقية .
تشيخوف وقصة صاحبة الكلب
كانت لحياة تشيخوف خصوصية خاصة ، وهو ذالك الكاتب الملهم بقصصه وانتاجاته الادبية من واقع حياته ونظرته للحياة الطبيعية والتي كان يرسمها في مخيلته ويعيش احداثها مع نفسه ، قد تكون معانات احتياجاته المادية في بدء نشىء حداثة حياته العائلية ومرضه بالسل والذي لم ينال الاهتمام والرعاية الكافية لصحته وعلى الرغم من كونه كان طبيبا ،فجميع هذه الظروف والمعانات النفسية شكلت
لديه عالما نموذجيا عاشى معاناته واكتسب منه تجربة جمعها في مسرحياته ورواياته ومجموعة قصصه القصيرة ، كان يحب الحياة الا انه لم يكترث للموت والدلالة على ذالك هو احتسائه كاسا من الشمبانيا قبيل وفاته و توديعه للحياة بثواني ، ولهذا كان يدع للتمتع بمباهج الحياة وبعيدا عن الروتين والارتباط التقليدي ، وهذا ماجاء في قصته ( صاحبة الكلب ) حينما التقى بطل القصة في احدى اجازاته مع شابة جميلة ومعها كلبها وهي تسير للتمتع بمباهج البحر وساحله الممتع ، هذا الزوج والذي ضايقته الحياة الزوجية التقليدية هرب باجازة من زوجته ليتنفس الحياة بحرية يعيش فيها حرا ومطلقا ومن غير قيود تحده وعادات اسروية تقيد حريته ولهذا اتجه الى السواحل البحرية المطلقة وهنا تتجلى ابداعات تشيخوف بتجسيد الحرية المطلقة والتي لا يحدها حدود سوى الخط الوهمي في التقاء نهاية مستوى البحر مع السماء بلوحة تشكيلية فيها من جمالية التعبير عن الحرية ، اقدم هذا المعجب بصاحبة الكلب على مصارحة الفتاة باعجابه لها ، وهنا في اجواء البحر وجمال طبيعته تتجلى تعبيراته اللغوية وشاعريته الرومانسية في عالم بعيد عن ضوضاء المدينة .
تشيخوف والفوارق الطبقية في مسرحية بستان الكرز
لقد ابدع تشيخوف في تجسيد الفوارق الطبقية من خلال معاناة الراسماليين حينما يتعرضون الى افلاس مالي ، ويجدون صعوبة في تكييف حياتهم على الاوضاع المتدنية اقتصاديا ، ويبقون متمسكين بكبريائهم الوهمي رافضين جميع الحلول التي تؤدي الى حل مشاكلهم المادية من خلال شخوص مسرحياته ، وعدم الاعتراف بواقع حالهم الجديد ، ليثير هذا الواقع سخرية تشيخوف في معالجة درامية يعالج من خلالها واقع هذه الطبقة معريا واقعهم المزيف في مسرحية ( بستان الكرز ) والتي صاغ تاليفه لها بحوار واقعي فيه من عنصر المفاجئة للاحداث الغير المتوقعة لهذه الطبقة الاقطاعية من البرجوازية اصحابي الجاه والمال ، وعلى الرغم من ان عنصر المفاجئة هي بالاصل من صالحهم الا انهم يرفضونها وبكبرياء فاشل وهمي نتيجة تعلقهم بماضيهم الطبقي والذي انسلخ عنهم على ضوء اوضاعهم المادية الجديدة مما يظطر هذا الحال الى ان تقدم الامراة الغنية الى عرض منزلها للبيع في المزاد العلني لتغطية ظروفها الاقتصادية ، وتشاء الاقدار ان يقع المزاد على التاجر الصديق لهم والذي سبق له وان عرض عليهم مساعدته الا انهم رفضوا هذه المساعدة ، وتاتي مبادرته الثانية بين دهشة الامراة الغنية حينما يعرض عليها ان تبقى ساكنة في هذا الدار لحين ما تجد حلا لازمتها المالية ، ومن خلال كبرياء هذا النموذج من الطبقيين الفاشلين ترفض هذه المساعدة محبذة التمسك بكبريائها على ان تقع تحت رحمة هذا المالك الجديد .
خاتمة البحث
( وعموما ، فلماذا نمنع الانسان من ان يموت طالما ان الموت هو النهاية الطبيعية المشروعة لكل انسان ؟ وما جدوى ان يعيش تاجر او موظف خمسة او عشرة اعوام زيادة ؟؟!! واذا اعتبرنا ان هدف الطب هو تخفيف الادوية لالام الانسان ، فان السؤال الذي يثور لا اراديا هو : مالداعي لتخفيفها ؟ فاولا : يقال ان الالام تقضي بالانسان ، وثانيا : لو ان البشرية تعلمت بالفعل ان تخفف الامها بالحبوب والقطرات ، فسوف تهجر تماما الدين والفلسفة ، فلماذا لا يمرض اللذين تعتبر حياتهما تافهة ، فلولا الالام لاصبحت الحياة فارغة .) انطون تشيخوف
لقد عاش تشيخوف في بداية حياته الكتابية مهتما للمغريات المادية من بعض الفرق المسرحية لقاء كتاباته ، الا انه وبعد اقتناعه بان المال لا يجدي نفعا للوصول الى الطموح الذي يهدف اليه ، اهمل تلك العروض المادية واصبحت اهتماماته بالاساليب الابداعية في فن الكتابة ، ولا شك انه كان رائدا في الحداثة والتطوير في اساليب كتابة القصة القصيرة والمسرحيات الحديثة والتي تضمنت توجيهات استفسارية للمتلقي غايته منها تحريك الاجواء الفكرية والبحث المشترك عن الوسائل التي من خلالها تساعد المتلقي ان يعيش حياته بوعي تام لما يحدث في حياته الواقعية ، حيث كان مؤمنا بان المسرح ليس من واجبه ان يجيب على اسئلة المتلقي ، بقدر ما يكون للمسرح دورا في الاسئلة للعديد من المواضيع والاوضاع الغير المحبذة والمنتشرة في حياة المجتمع ، طالبا من المتلقي الاجابة على اسئلته والوصول الى الحلول الاساسية والمنطقية بنفسه .
واخيرا----- توفي تشيخوف في المانيا والتي لم تكن تسره ماشاهده من بعض العادات والتقاليد في المانيا ، الا ان مرضه لم يمهله لكتابة انطباعاته عن طريق القصة القصيرة ، او عن طريق نص مسرحي ، وكأنه كان على علم بقرب نهاية حياته ورحيله عن هذا العالم ، فوقف منتصبا قائلا : انا على شرفة الموت ، ويقال ان طبيبه الخاص كان ملازما له وبالقرب منه حيث قام بتهدئته بحقنة طبية ومن ثم طلب بجلب الشمبانيا ليشرب منها تشيخوف كاسه الاخير بابتسامة مرسومة
على شفتيه قائلا : لقد اشتاقيت لشرب مثل هذا الكاس لانني كنت قد فارقته منذ زمن طويل وتواصل الحديث زوجته الفا عن اخر لحظات حياة زوجها السابق قائلة : لقد استلقى على جنيه الايسر وبعدها توقف انفسه وفارق الحياة ، وفيما بعد نقل جثمان هذا الكاتب العبقري الى روسيا ودفن في تربة بلاده التي احتضنت جثمان اشهر كاتبا للقصة القصيرة وللنصوص المسرحية والادبية من كتاب القرن العشرين ، حيث اسدلت الستارة على حياته ولم يبقى من ذكراه الا كتاباته الخالدة والتي خلدت سيرته الادبية .