هذا العنوان يعيدني الى قصة كنا قد اطلعنا عليها ونحن صغار بمرحلتنا الابتدائية في المطالعة العربية وهي: ان شيخا مسنا طاعنا في السن، شيخا عجوزا كان يفلح ليزرع، واذا بالامير ممتطيا جواده يمر من جانبه فاستوقفه منظر الشيخ العجوز وهو يفلح ليزرع، فوقف متاملا هذا الشيخ المسن وهو مستمتعا بمنظره، فلاحظه الشيخ العجوز فابتسم ابتسامة مليئة ارادة وعزيمة واقتدار للتحدي وهو في مثل هذا العمر، فبادره الامير قائلا: ماذا تعمل؟
فاجابه الشيخ العجوز: انني افلح، وهنا ما كان من الامير الا وان بادره بسؤال اخر، ولماذا تفلح؟
فاجابه العجوز المسن: من اجل ان ازرع!!
فاجابه الامير: وانت في مرحلة من هذا العمر الذي يتم عليك للاستراحة، وهنا ماكان من الشيخ العجوز الا ان يقول: يااميري، انا اامن بان الانسان مهما امتد به العمر فهو اهلا بالعطاء، وبما انني احس بهذا العطاء فلماذا ابخل بعطائي على غيري؟
انا اامن بحكمة كنت قد سمعتها في صغري وهي:
( زرعوا فاكلنا نزرع فيأكلون)
فمن هذه الحكمة المليئة معنى في العطاء ونكران الذات، تجعل الانسان ان يمتلىء ارادة وعزيمة، وان يبادر بالعطاء دون ان يبالي لسنين العمر، ولا ينتابه الخوف والذعر حينما يتذكر انه جاوز مرحلة الشباب ودخل مرحلة الشيخوخة لان مراحل الشباب والشيخوخة لا تحتسب على مدى السنين بقدر ما تعتمد على ارادة الانسان ورغبته في الحياة، سيما وان لديه الرغبة بالعطاء حينما يحس بانه يملك ملكة من الثقافة والمعرفة مقرونة بالخبرة والتجربة المهنية والحياتية، ومن هنا تبدأ مرحلة تحمل المسؤولية باتجاه ابنائه الطلبة الذين ينظرون اليه على انه نبراس للثقافة وللعلم الذي يعتمدونه مصدرا لاكتساب منه ما يحتاجونه من الخبرة والثقافة المهنية.
ونحن بدورنا لو استعرضنا اسماء روادنا من اساتذتنا الفنانين الذين اغنوا الساحة الفنية ان كان في العراق او على نطاق مساحة وطننا العربي، لاستبشرنا خيرا بتلك الفترة والحقبة الزمنية والتي تعد من العصر الذهبي لتطور مسرحنا العراقي، وتاملنا اعمالهم ضمن تلك المرحلة التاريخية، لينتابنا شيئا من نشوة الفرح ونحن نستعرض العديد من اسماء النجوم اللامعة في عالم المسرح والمخرجين الذين اثبتت اعمالهم وعروضهم المسرحية تفوقا وابداعا لا نظير له على الساحة العربية، وحتى ان اعمالهم تجاوزت اعمال اقرانهم من المخرجين العالميين من امثال عباقرة الاخراج، ابراهيم جلال، جاسم العبودي، جعفر السعدي، جعفر علي، اسعد عبد الرزاق، قاسم محمد، سامي عبد الحميد، بدري حسون فريد، بهنام ميخائيل، هذا الرعيل من فطاحلة وعباقرة المسرح العراقي، اسسوا لبنة راسخة شيدت على صرحها مساحة من ابداعاتهم وتالقاتهم المسرحية، وافصحت عروضهم عن تجارب نموذجية ابداعيا واكاديمية ابهرت المشاهدين والمعنيين بشؤون الفنون المسرحية من الصحافة والنقاد، ومن عشاق الفنون المسرحية ان كان في العراق او في المهرجانات المسرحية العربية، هؤلاء المبدعون لم يكترثوا لسنين حياتهم وبلوغهم من العمر مايجعلهم عاجزين عن تقديم تجاربهم وخبرتهم، انما كانوا دئما ينبوعا للعطاء الذي لا ينضب، يستمدون من جذور ثقافتهم ومعرفتهم نماذج رائعة، وينشرونها من خلال عروض مسرحية تبدأ من العراق وعلى امتداد الوطن العربي سوريا ومصر والمغرب العربي، ومن العروض التي شهد لها النجاح بنسبة عالية، مسرحية البيك والسائق، مسرحية الطوفان، مسرحية فوانيس، ومسرحيات عديدة من اعمال فرقة المسرح الفني الحديث، والى جانب اعمال الفرقة القومية للتمثيل انذاك، ولم يقتصر هذا الابداع والتالق على المخرجين العراقيين بقدر ما طالت حالة الابداع الى الكتاب العراقيين من كتاب النصوص المسرحية، ان الكاتب العراقي اثبت في بعض نصوصه تفوقا وطنيا وعربيا وعالميا، من امثال الكاتب ادمون صبري، والكاتب عادل كاظم، والاستاذ الشامل عبد الوهاب الدايني، وطه سالم، والمرحوم الاستاذ يوسف العاني، ونصوص الاستاذ قاسم محمد، وجميع نصوص ماخطته انامل كتابنا المسرحيين والتي عبرت عن افكارهم وتوجهاتهم ولا سيما الكتاب اليساريين والذين كانوا يدعمون صفوف الطبقة الكادحة وطرح معاناتهم باسلوب يشوبه شيئا من الابداع وبمختلف المدارس الواقعية والتعليمية والرمزية والتسجيلية والتعبوية.
لقد تميزت العروض المسرحية في وقتها بعروض ذات اساليب جديدة ومدارس حديثة، قدم من خلالها الاساتذة الكبار حصيلة ما اكتسبوه من الخبرة والثقافة نتجت عنها ملاحم للفرجة وصور مرئية ملحمية لعروض مسرحية، تحركت من خلالها شخوصهم والتي جسدها الممثلون الحرفيين والمبدعون والذي كان لللاساتذة المخرجين الاثر في تنمية مواهبهم في التمثيل، حيث اضفت لحرفيتهم ابداعات ابهرت جميع المشاهدين منهم: صلاح القصب، كريم عواد، فاروق فياض، قائد النعماني، سامي عبد الحميد، يوسف العاني، فاضل خليل، مكي البدري، طعمة التميمي، فخري العقيدي، باستثناء الممثلين والذي ساهموا على تطوير المسلسل التلفزيوني، منهم سليم البصري، خليل الرفاعي، رضا الشاطىء، سامي قفطان، بهجت الجبوري، قاسم الملاك، وجيه عبد الغني، اما الفنانات واللاتي اثبتن جدارتهن وتالقهن على خشبة المسرح هن، زينب، ناهدة الرماح، سليمة خضير، سهام السبتي، مريم الفارس، اضافة الى هذا، العديد من الفنانين والذين اسهموا في اغناء الحركة الفنية في العراق من الممثلين والممثلات والذين اثبتو جدارتهم من خلال المسرح والتلفزيون، لم يفكروا يوما بالتوقف عن العطاء والتمثيل او الاخراج لكونهم تجاوزوا مرحلة الشباب، وانما كانوا يملكون من الارادة والعزيمة مما جعلتهم يستمرون في العطاء الذي اضاف لمسيرتهم خزينا من الاعمال التي اشاد بها النقاد والمعنيين بالفنون المسرحية.
ونحن الان نعيش مرحلة نحمد الله على انه مازال من المبدعين من ذالك الصرح الذهبي يعيش بيننا، ونحن بدورنا نبتهل للباري عز وجل ان يمنحهم الصحة والعافية والعمر المديد لهم، هذه الاسماء من نجوم الابداع، مازالت تعيش بيننا، هؤلاء المبدعين والذين واكبوا حركتنا المسرحية واضافوا من لمساتهم ابداعات ميزتهم عن اقرانهم في العروض المسرحية، الا ان مايؤسف له انهم لم يتفاعلوا مع مسيرة طلابهم بحجة انهم تجاوزوا مرحلة الشباب مما جعلتهم ظروفهم النفسية ان يحيلون انفسهم على التقاعد الغير الرسمي، وكما نعلم نحن ان الفنان لا يلتزم بقواعد الخدمة المدنية، بل يرتبط بالتجدد والتطوير، واستحداث حالة من حالات الابداع بمدارس حديثة مرتبطة بالرؤية المتجددة في اسلوب ابداعاته، بمدارس جديدة متميزة لحياته الفنية يغني بها الساحة الفنية، لتكون نبراسا وتجارب جديدة يستزيد منها طلبتنا الاعزاء ثقافة وعلما.
فمن هنا يبدأ دور طلبتنا ومحبي المسرح والمهتمين بشؤونه بتفاعلهم الظرفي من تهيئة الندوات الثقافية والفنية، يحضرها طلبة الفنون المسرحية والصحفيين، هذه الندوات والتي يستظيفوا من خلالها اساتذتنا الرواد ليتكلموا عن تجاربهم، ويكشفوا عما عندهم من حصيلة ماقدموه من الاعمال الناجحة، وهم يشرحون عن عطائاتهم، وكيف كانت مسيرتهم، وماهي الصعوبات التي وقفت ضد تنفيذ تجاربهم وخططهم، وكيف تجاوزوها. مثلا، تبدأ الجمعيات الفنية والمعاهد ولا سيما معهد الفنون الجميلة والاكاديمية بالاستعانة باساتذتنا من الرواد وتكليفهم وبالتعاون مع الاساتذة من شباب المسرح باخراج بعض الاعمال المسرحية يجسد شخوصها طلبة المعهد او الاكاديمية، ليكون احتكاكا متماسا من طلبتنا مع اساتذتنا الرواد في حقول اعمالهم الاخراجية، ولانه كما نعلم من ان عملية التاثير والتاثر، لها تاثير مباشر في صقل وتهذيب مهارات الموهوبين من طلبتنا الاعزاء.
تهيئة البرامج الفنية التلفزيونية لتقديم هؤلاء الرواد من خلال استضافتهم مستعرضين من خلال هذه الاستضافة تجاربهم وخلفيتهم الثقافية، والحديث عن مسيرتهم الفنية وذكرياتهم مع اساتذتهم من الذين كان لهم الاثر في تطويرهم.
اضافة الى هذا التوجه لكتابنا الافاضل وممن لهم ثقافة عالية وخزين من التجربة في كتابة النصوص المسرحية، وتكليفهم بالكتابة، او انتاج ماجادت بهم اقلامهم من نصوص مسرحية، وانا ومن خلال ايماني بالشباب المبدع من الاساتذة المخرجين للفنون المسرحية، شباب اغنوا تجربة فريدة من عطائهم الثر وابدعوا، ويستحقون كل الدعم منهم د. كريم خنجر، د. اسامه السلطان والاخ العزيز المخرج المتالق عكاب حمدي، واخي الفنان الاكاديمي قيس جوامير، وغيرهم من المعنيين في شؤون المسرح، سيرسخون من تجاربهم ما يمكن ان نجعلها مدارس حديثة ينتهجها طلبتنا الاعزاء، ويحتذون بها، ويسيرون على خطاهم، من اجل ديمومة حركة المسرح العراقي وتجسيد مقولة.
(زرعوا فاكلنا، نزرع فيأكلون)