مسرح الازقة في الاحياء الشعبية هو الذي انجب مسرح الشارع
(مسرح الازقة هو فرجة لفعاليات وانشطة الشباب من ذوي العزيمة في صنع القرار)
هذه الفرجة يتابعها المتلقي بكل شغف ليطلع على الاراء المطروحة من منصة هذا المسرح التي من شانها ان تساعده على الرفض والاحتجاج من خلال صنع القرار واتخاذه منهجا للتطبيق والاعلان عنه لتحقيق اهداقهم وطموحاتهم والتي تساعد على تحقيق العدالة الاجتماعية في الحياة. انه مسرح يدعو الى الرفض والاحتجاج وتحقيق ارادة الشعب واخضاع النظام الحاكم من اجل تنفيذ مطاليب الجماهير في التغيير والتحديث، وتحقيق اهداف انسانية لخدمة المجتمع والتي يسعى اليها الانسان في كل مكان.
وعليه فان مسرح الزقاق او الحي الشعبي، كان البديل لخشبة المسرح المتواجدة في القاعات والصالات، هو المسرح الذي انبثق عنه مسرح الشارع مختلفا عنه في الاسلوب والطرح وعن مضامين افكاره واهدافه المعاصرة وبموجب المرحلة الظرفية المتزامنة مع وجوده، وانما هذا المسرح (مسرح الزقاق) يمكن تضمينه افكار نبيلة وسامية هدفها خدمة الجماهير حينما يتواجد بطرجه وسط زخم الناس ليطرح عليهم مجموعة من القضايا السياسية والتي تهم المواطن وتهم حياته الاجتماعية والمصيرية في تحقيق ارادته باتجاه رفع الغمة الجاثمة على انفاسه، انه مسرح سياسي كمسرح الشارع ينبثق الى حيز الوجود ليطرح عروضه في اماكن تجمع الافراد ممن يبحثون عن مصدر رزقهم، او في اماكن تواجد افراد المجتمع في الاسواق الشعبية، واسواق بيع الكتب والمجلات مثل اسواق (المتنبي) او سوق العزل، او سوق الهرج-- الخ.
هذا المسرح يعلن عن اهدافه في طرح مضمون تعبوي يساعد على الانتفاضة التعبوية والتحريض على الانظمة التي لا تحقق اهداف الجماهير ،يشترك في طرحه الممثلون المشتركون في هذا العرض المسرحي وبالاتفاق المسبق فيما بينهم على تناول موضوع الساعة ويناقشونها امام الجمهور المتفرج جملة وتفصيلا، وقد يشارك بعض المتفرجين من خلال اسئلة تطرح على الممثلين وتحتاج الى اجوبة مقنعة وبهذا يساعد مثل هذا العرض على ادخال المتفرج ضمن اللعبة المسرحية مما يضيف للعرض المسرحي واقعية اكثر وتلاحما جماهيريا مع الفكرة المطروحة ليستجيب الى نداء الطرح ويتاثر بمضمون طرحه.
وهنا لا بد من طرح مستلزمات مثل هذه الاعمال (مسرح الازقة) من ديكور واليسنوغرافيا المسرحية، هي في الحقيقة موجودة على ارض واقع العرض (ان كان في سوق مزدحم، او في معرض لبيع السيارات، او في ساحات الاسواق الشعبية، او في شوارع المكتبات والمزدحمة بروادها من المثقفين) فهي لا تحتاج الى ديكور مصمم لان العمل مكيف وفق اسلوب يمكن عرضه في مثل هذه الاماكن، ومن الممكن استخدام الممثل ادواته ومن المتاح امامه في موقع العرض ويفضل من دون اتفاق مسبق، انما يترك هذا الى نباهة واستدراك كل ممثل واحتياجات ادواته المسرحية ليضيف في هذا الاستخدام جمالية يخدم من خلاله شخصيته ويضيف الى حرفيته ابداعا يعمل على ترسيخ وتجسيد هذه الشخصية بافكارها وبمضامينها الرافضة والمحتجة والداعية الى الثورة ضد الظلم والاستعباد ومقاومة الاوضاع الرديئة والتي لا تخدم الجماهير، ولا تسعى الى رفع الحالة المتردية التي يعيشها المجتمع وافراده، وان يحقق ومن خلال هذا الرفض التوعية الجماهيرية والمساهمة في خلق ثورة عارمة تساهم في تحريك الشارع السياسي من اجل دعم الشريحة الاجتماعية لتساعده على الرفض والتمرد على الوضع المتدني، وتحقيق من خلال عروض هذا المسرح متنفسا وسبيلا الى الانفتاح للتغيير والاصلاح.
بذرة مسرح الازقة
جميعنا ومنذ طفولتنا عشنا تجربة التمثيل في احيائنا الشعبية، فبعد ان يقع اختيارنا انا واصدقائي لاحد الافلام السينمائية، نسارع لقطع بطاقات الدخول، وبعد انتهاء عرض الفلم والذي استمتعنا بمشاهدة احداثه انا واصدقائي، تنمو في داخلنا حب المحاكات لاحداثه، بحيث نتفق وبعد عودتنا الى حينا الشعبي تمثيل ماشاهدناه، فيتم توزيع الادوار فيما بيننا، ومن ثم يبدأ عرضنا الارتجالي معتمدين على ما اختزنته ذاكرتنا من مشاهداتنا للفلم، اضافة الى ابتكاراتنا التي نضيفها الى تمثيلنا، ففي حينها لم يكن هدفنا من هذا التمثيل خلق الفرجة ودعوة الناس من سكان الحي الشعبي لمشاهدتنا، بقدر ماكان هدفنا هو للتسلية فقط، ولا زلت اتذكر كيف كنا ناخذ مواقعنا من الازقة الضيقة من مدينة الموصل وبالضبط في محلة راس الكور وكان من الاصدقاء والذين كانوا يشاركوننا التمثيل كل من المرحوم المخرج عوني كرومي وانا وصباح يوسف والمرحوم صباح ابلحد والذي تخرج من معهد الفنون الجميلة، وحبيب ابلحد وزهير المقدسي-- الخ. كنا نعيش مع احداث تلك القصة والتي شاهدناها من على شاشة السينما من افلام الكاوبوي لكبار نجوم هوليود منهم كاري كوبر ، وانطوني كوين، وروبرت متشم، وبرتلانكستر وغيرهم من نجوم السينما العالمية، فبعد ان نتحصن بمواقعنا، ونتخذ من اصابع اكفنا مسدسات نستعين بها في قنص، مدعومة بمؤثرات صوتية تخرج من افواهنا تمثل اصوات اطلاق الرصاصات الوهمية على اعدائنا، ومن بعدها نبدأ الهجوم الواحد على الاخر باللكم والركلات ومن ثم نستعمل السكاكين الوهمية فيما بيننا ونحن مستمتعين بلعبتنا هذه، فكان الزقاق هو مسرح عروضنا التمثيلية، وفي بعض الاحيان ومن دون ان نشعر يلتم حولنا بعض المتفرجين من ابناء حينا، ومنهم من كان يتفرج علينا من شبابيك مساكنهم والمطلة على الزقاق الخارجي، فكنا ومن خلال تمثيلنا الفطري وايماننا بما كنا نقدمه من محاكات القصة بحرفية عفوية للتمثيل متماشيا مع ما شاهدناه من العرض السينمائي، ومن دون علمنا بالجمهور الذي كان يتابع عرضنا بكل شغف، وبعد ان ننتبه الى ذالك الكم من المتفرجين عندها كان ينتابنا شيئا من الغرور والتباهي في عرض مواهبنا التمثيلية ونحن ومن خلال هذه الفرجة كنا نستمتع بهذا الدعم المعنوي من خلال مراقبة الجمهو لعرضنا العفوي، وكنا في بعض الاحيان نسمع بعض التعليقات الصادرة منهم لشدة حماسهم واندماجهم مع ماكنا نقدمه من العرض التمثيلي.
هذه الفرجة البسيطة والمتواضعة حينما تذكرتها اعادتني الى مرحلة الطفولة البريئة والجميلة ونحن نخوض تجربة عرض جميل ومن دون الاتفاق على كيفية رسم الحركات، وبناء العلاقات مابين شخوصنا، ومن دون اجراء اية تمارين مبدئية على هذا العرض كما هو المعتاد في تماريننا المسرحية، كنا نعتمد على التضاريس الارضية للزقاق، وعلى اعمدة الكهرباء للزقاق، وبيبان الدور للاختفاء والتمويه للعدو المعادي للعصابة، والذي في حينها كنا نطلق على بطل القصة (الولد) واما الاكسسوارات فكنا نتخيلها ونمثلها بتمثيلنا الصامت.
ومن هنا تدربنا على اولوية دروس الفن التمثيلي ومن دون ان نعلم انه (الابتكار والصامت) وكذالك في ارتجال دايبوجاتنا الحوارية، ولم يدور في خلد معرفتنا في وقتها باننا نخوض تجربة (المسرح الارتجالي) ايضا، وهكذا كانت هذه الممارسة الجميلة هي بذرة انطلاقة لمسرح الازقة، ونحن املنا ان احسن فنانونا تطويرها وان بياهموا بنقل احداث عروضنا المسرحية الى الازقة في احيائنا السكنية والتي يحدد مواقعها المخرج في الاحياء الامنة والتي يتواجد فيها السكان وتكثر فيها الازقة لتساعد على استقطاب جمهرة سكان الحي الشعبي للتمتع بما يعرض عليهم من فن الدراما.
مسرح الازقة وتجربة الرواد من مسرحيينا
حدثني الاستاذ الرائد الفنان المرحوم حامد الاطرقجي قائلا: من شدة حبنا للعمل التمثيلي، كنا نتفق انا وبعض زملائي من الفنانين انذاك ومنهم المرحوم الحاج ناجي الراوي والذي زاملته فيما بعد في فرقة الزبانية للتمثيل، كنا في وقتها نتفق على القصة والحكاية، ونختار موقعا في احد ازقتنا الضيقة، ونسد منافذ خروجها ودخولها بقنفات خشبية بحيث نمنع مرور السيارات والعربات في تلك العصرية من يوم عرضنا المسرحي والارتجالي، مستخدمين بعض الشراشف والمناضد وبعض مستلزمات عرضنا نجلبها من بيوتنا، وحتى ملابسنا كنا نجلبها من بعض الجوارين والفائظة عن الحاجة (ملابس رجالية ونسائية) ولم نكن نفكر في عرض ماعدنا من العمل المسرحي في قاعة مسرح لقلة الجمهور المشاهد انذاك لاعراف اجتماعية، او لقلة مانملك من مستحقات اجرة القاعة، ولهذا كنا نكتفي بعرض ماعندنا في ازقة احيائنا الشعبية، او من على سطوح منازلنا، فكنا نتفق انا والحاج ناجي الراوي على فكرة كوميدية ساخرة ولا سيما اشتهرنا في وقتها بعروض الفتاح فال) غرضنا من ذالك توعية اهالينا من سكان الاحياء الشعبية الى دجل هؤلاء الفتاحين الفال، واستغلال سذاجة بعض النساء واستنزاف اموالهم بتعاويذ سحرية تنقذهم من مصائبهم، وقد لاقت عروضنا الناقدة لمثل هؤلاء النسوة اعجاب الجمهور المتابع لاعمالنا، هذا الاعجاب دعى بعض الافراد من احيائنا السكنية ان يتوجهون الى بيوتنا للاستفسار منا عما اذا كان في نيتنا اعادة العرض التمثيلي مرة ثانية، وتلبية لرغباتهم كنا نتفق على اعادة العرض التمثيلي مرة ثانية وثالثة.
على ضوء تجربة مسرح الازقة لا بد وان نبني تجربة جديدة متطورة عما كانت في السابق وعلى ضوء متطلبات مرحلتنا الظرفية في المناسبات الدينية والاجتماعية والسياسية وحتى الثقافية لما فيها من فائدة تجنى لجمهورنا وشعبنا في ظروف لا يستحسن التجمع في اماكن بعيدة عن مواقع مساكننا، والغاية من هذا المحافظة على ديمومة العروض المسرحية وعلى الجمهور، وفي اطار جدولة هذه العروض في الازقة لاحيائنا السكنية، وقد يندهش بعض الاخوة لاحياء مثل هذه العروض في الازقة في مرحلتنا الحالية، ونحن نقول ان الغاية من هذه العروض لمشاهدينا افضل من انقطاعهم عن مواصلة المتابعة للعروض المسرحية.
ولهذا يتطلب من الخريجين الشباب، والباحثين في اصول تجديد وتطوير العروض المسرحية وتكييفها على ضوء متطلبات المرحلة ان نصنع المستحيل وبشكل راقي لمثل هذه العروض في الازقة ولا سيما في الاحياء الشعبية، لكي نحافظ على ديمومة العلاقة مابين المشاهدين والمسرح، ولهذا يتطلب منا ان نبحث عن الفكرة التي تجسد هموم الساعة، وان نخلق اسلوبا لتوصيل افكارنا ومعالجتها باسلوب يتسم في الحداثة ولتطوير في اسلوب العرض المسرحي، والاتصال المباشر مع الجماهير ومن خلال نصوص يتفق عليها، وقد تتسع رقعة هذا الطرح وبما يراه المخرج بدلا من الاحياء السكنية الانتقال الى مواقع تواجد الافراد وعموم الشعب، كأن يكون في سوق الشورجة، او في سوق الغزل، او في سوق العربي، او في المقاهي بين روادها، او في محلات لبيع الخضار والفواكه في العلاوي الخاصة بها، او في مواقع البيع المباشر لبيع السيارات في المعارض الموجودة في البياع او في شارع فلسطين، حيث يتفق كروب العمل على مقدمة استهلالية لافتتاح العرض ومن خلال الادوار والتي يتم توزيعها على الممثلين ومن ثم يستمر العرض في طرح افكار احتجاجية وتحريضية والتشجيع على الثورة ضد الاوضاع المتردية في طرح مضمون يساعد على توضيح الصورة القاتمة للانظمة الحاكمة ومدعم بمناشير مطبوعة تتضمن شرح ابعاد اهدافهم من هذا العرض المسرحي.
فعروض مسرح الازقة تغنيهم عن مشاكل تمويل الانتاج، وتساعد على مناهضة الاوضاع السياسية المتردية لتحقيق اهداف الجماهير وانقاذهم من الوضع البائس.