حينما نبحث في سيرة اي كاتب من كتاب النصوص الادبية والمسرحية، ونغوص في اعماق كتابات انتاجاته الادبية، فحتما اننا سندور في فلك حياته الخاصة ان كانت اسروية او اجتماعية وتاثيرات الحالات الظرفية عليه مثل السياسية والثقافية والفنية وحتى الدينية. فعندما نتناول سيرة حياة الكاتب والمبدع العراقي عادل كاظم ونشئته ولم نستغرب ان وجدنا واكتشفنا ان مثل هذه المعطيات الظرفية اثرت على سيرته ونشاته وجعلته بين قابين في تدرج حياته، صباه، وشبابه، وعلى ضوء تطور موهبته الثقافية والسياسية والفكرية التي تاثر بها ولاسيما في محيطه الاسروي والتي مهدت له لاختيارات عدة منها الفنية والسياسية وحتى الدينية، وهكذا نشأ هذا الكاتب العملاق في اسرة معظم افرادها متفتحين على عالم خاص يضم شيئا من الخصوصية الاسروية في مجتمع تحكمه العادات والتقاليد في ظل نظام بلد قاس وبعيدا عن اجواء تحقيق العدالة الاجتماعية، ضمن اجواء فوضوية تبعية لانظمة حاكمة تستمد تعاليمها وقوانينها من خلال معاهدات عالمية واقليمية تحافظ على مصالحها وامنها القومي، ضمن هذه الاجواء الخانقة ولد عادل كاظم سنة 1939وترعرع ونشأ ضمن اسرة من بغداد كانت تسكن مدينة الفضل، ثم هاجرت الى البصرة حيث كان والده يتراس احدى النقابات في الخمسينيات.
وهكذا نشأ في احضان عائلة معظم افرادها من الفنانين التشكيليين والشعراء والادباء، وتذكر لنا بعض المصادر الموثوقة بأن شقيقه هو من نحت تمثال السياب والشقيق الاخر هو شاعر مهتم بموسيقية مفردات كلمات شعره وادبه، فهذه الاجواء الثقافية حددت مسار عادل كاظم وجعلت منه كاتبا مسرحيا ملتزما بافكاره الانسانية التقدمية، لا يساوم مع اي نظام على حساب مبادئه وعقيدته التي يؤمن بها اشد الايمان، بعكس بعض الكتاب الماجورين والذين كرسوا كتاباتهم لمصالح مؤسساتية وهم يرقصون من خلال انتاجاتهم على اكتاف الموت لتحقيق مصالحهم وماربهم الخاصة، انه صاحب عقيدة ومبدأ، وجل كتاباته تجسد افكاره التقدمية بشخصيات فيها من الرمز ما ينحاز في مسارها الدرامي الى جانب قضية الانسان والعمل على تحرير افكاره من العادات والتقاليد الاجتماعية البالية، وتحريضه على الثورة والتحرير ومن خلال نصوص تاريخية يتم اسقاط احداثها على المعاصرة بافكار تقدمية يؤمن هو من خلالها اعتقادا منه انها تساهم في تحقيق التغيير والتطوير من اجل الوصول الى اعماق الجماهير وتوعيتهم على ماهم عليه من الظلم والقسوة، هذا هو عادل كاظم، لقد استمد من التاريخ حكاياته، ونسج من خياله الخصب قصة التحرير والانعتاق باسلوب يشوبه الابداع والتشويق والبناء الدرامي، عادل كاظم الكاتب المبدع والذي كرس كتاباته من اجل الدفاع عن قضية الانسان في الحياة، وعن حرية الفرد في اختياراته الفكرية والسياسية والدينية، ولهذا جائت كتاباته متفقة مع ميول بعض المخرجين الذين يؤمنون بتحرير الانسان من دائرة العبودية والاخذ بزمام قيادته للوصول به الى بر الامان ومن خلال دعمهم وتشجيعه على الكتابة منذ بزوغ عبقريته الكتابية في مسرحية الطوفان، (ولهذا الحدث له قصة، كيف انه اعطى نص مسرحية الطوفان الى الاستاذ الراحل المخرج جعفر السعدي ليطلع عليه وبيان مدى صلاحية النص، واذا به يتفاجأ بالاستاذ جعفر السعدي ليخبره عن ضياع النص، وتاتي المفاجأة الاخرى حينما جائه الاستاذ ابراهيم جلال وهو في الصف وبحضور الاستاذ جاسم العبودي ليستأذن له بالخروج خارج الصف، وفي الخارج كانت المفاجئة تنتظر عادل كاظم حينما ساله ابراهيم جلال رغبته باخراج نص الطوفان ليخبره عادل كاظم بضياع النص، الا ان ابراهيم جلال فاجئه بان النص المسرحي عنده ومحتفضا به ولاعجابه به يروم العمل على اخراجه مسرحيا، ففرح عادل كاظم اشد الفرح لعثوره على النص المسرحي لدى الاستاذ ابراهيم جلال).
ان عادل كاظم ليس بكاتب ينفخ بابواق دعائية لا تخدم مصالح الشعب والشريحة المغلوب على امرها من المسحوقين والمعدومين اقتصاديا، انه ليس بوقا مزيفا ينفخ من على خشبة المسرح لصالح الانظمة بقدر ماهو ضد الزيف والكشف عن الحقائق التي ظلمت الشعب وحاصرته في زنزانة الموت والتعذيب والذي كان يدور في اجواء عراقنا، وعادل كاظم كان يبحث عن متنفسا لذاته، يفرغ مافي اعماقه من التنفيس والتطهير للمتلقي وتجسيد معاناته، هذه المعاناة جعلته يبحث بين سطور مجلدات ادبية ويطلع على الافكار العالمية يستطيع من خلالها ان يسبح عالم يسوده فكر يبحث في كيفية تحقيق المصالح للجماهير وتحقيق العدالة الاجتماعية لانقاذ هذه الجماهير، فهوى ذالك القارىء الذي كان يغوص في سطور التاريخ القديم واساطيره اضافة الى اطلاعه على صفحات التاريخ المعاصر ليستقي منهم شخصياته لتعالج الواقع المرير وكما كان ظاهرا هذا في مسرحية الطوفان ومسلسل الذئب وعيون المدينة، انه المفتون في صناعة التاريخ القديم بتاريخ حديث يجدده من خلال طرح افكاره التقدمية ويصيغ احداثه من واقع معاصر يحمل من ابداعات الرمز في افكار شخوصه المبدعة في الصياغة والتجسيد كمثل شخصية كلكامش ومعاناته التي كان يطرحها كما يطرحها الانسان المعاصر وفق الاحداث المريرة التي يعيشها ووفق اختياراته لشخصيات واقعية مسحوقة من خلال شريحة اجتماعية متوافقة مع الواقع الحقيقي كمثل قادر بيك واسماعيل جلبي ورحومي في الذئب والنسر وعيون المدينة.
كان عادل كاظم يبحث عن ذات الانسان ويتاثر بالافكار التي تنادي بتحرير هذه الذات من الروحانيات والتشبث بالماديات والتي تساعد الانسان على العيش الرغيد في وطن غير مقيد وشعب يعيش سعادته، ولهذا حاول وكباقي المفكرين والفلاسفة الذين بحثوا عن الخلود ومن خلال شخصية كلكامش في مسرحية الطوفان الا انه فشل في الوصول الى النتيجة التي كان يهدف الى الوصول اليها، ولهذا عاش التمرد الذاتي مع نفسه ومع شخصيات نصوصه المسرحية مستهزءا ببعض القيود التي احاطت بالانسان من الحياة الروحية والرهبنة، وانما لامناص منها ومن نتائجها الحتمية في اللاجدوى.
لقد كانت حياته الادبية، حياة مبنية على نضج ماتوصلت اليه افكاره وخياله الخصب لينسج من خلالها حكايات واساطير يفرح هو بها قبل غيره، لم يكن متباهيا ولاانانيا بقدر ماكان انسانيا في معالجاته الفكرية والادبية، ومستقلا بارائه وغير متملق ومتزلف وغير مزيف للحقائق التاريخية لمصلحة المتنفذين في الانظمة الحاكمة والتي عاصرها، انما بقي محافظا على نزاهته الانسانية، حيث تخطى الزمن بافكاره ونضوج تجربته في الكتابة، بحيث اصبح يضاهي بتجربته وثقافته الحرفية معظم كتاب العالم.
ان عادل كاظم لم يسيىء الى ادبه وفنه، ولم يحاول تدجين افكاره الاجتماعية والفلسفية والادبية والثقافية، في الوقت ذاته كان اقرانه من شباب عصره يبحثون بين سطور ارسين لوبين واجاثا كرستي بينما كان هو يبحث في سطور قصة البؤساء لفكتور هيجو والتي كان لها الاثر في كتابة مسلسله الايام العصيبة، كان يبحث في الكتب عن مفردات الكلمة الموسيقية واختياراته اللغوية لاستخدامها في تجسيد افكاره وقيمه الانسانية والتي تمخضت عن نصوص مسرحية فاقت بتاليفها عن المؤلفات العالمية منها (مسرحية الطوفان، ومسرحية تموز يقرع الناقوس، ومسرحية عقدة حمار، ومسرحية الموت والقضية، ومسرحية الحصار، ومسرحية دائرة الفحم البغدادية، ومسرحية مقامات ابي الورد، والمتنبي، ونديمكم هذا المساء، وحب وخبز وبصل، والشاهد والقضية، ومسرحية ابيض واسود، وكذالك تمخضت تجربته الكتابية عن مسلسلات تلفزيونية عبرت عن نضج تجربته وعمق رسم معالم شخوصه في الذئب وعيون المدينة والجزء الثاني النسر وعيون المدينة، لايحب التقليد وعلى الرغم من تاثره بكتابات غوركي وتشيخوف وبكتابات معظم الادباء العالميين، انما لم يحاول مجاراتهم في التقليد بل برع في مؤلفاته وتجاوزهم بابداعات صياغة نصوصه المسرحية والتلفزيونية، كان يعجبه الابداع والابتكار والكشف عن عالم يكشف من خلاله افكاره ونضج خياله لينسج من خلالهما حكايات لاساطير الملحمية ابهرت المتلقي واثارت اعجابه، ولهذا السبب نال اعجاب المثقفين من اصحاب
الشان في العراق وفي البلاد العربية، وهذا ما اثبتته مشاركات اعماله في عدة مهرجانات مسرحية عربية في الكويت وسوريا والقاهرة، لقد غير موازين الاختيارات عند كبار المخرجين العراقيين ومنهم ابراهيم جلال وسامي عبد الحميد وبدري حسون فريد ومحسن العزاوي في اختيارات النصوص المسرحية للعمل عليها حينما نضجت افكاره وتبلورت تجربته ونضجت مع المخرج ابراهيم جلال في مسرحية الطوفان، ومع بدري حسون فريد في مسرحية الحصار، ومع محسن العزاوي في نديمكم هذا المساء ومع سامي عبد الحميد في المتنبي، في الوقت كانت جل اختياراتهم للنصوص العالمية من اعمال شكسبير وسوفوكليس وتشيخوف وجان انوي، انما هذا الكاتب والتي حصدت نصوصه المسرحية جوائز عراقية وعربية لم يتوانى عن تقديم اروع ماعنده من مؤلفات تلفزيونية ومسرحية فاقت مؤلفات كتاب العالم العربي والعالمي.
كان عادل كاظم يبتعد عن التفليد في الكتابة والنمطية المملة في تجسيد شخوصه، كان يتقن فن صياغة الحبكة واثارة الصراع مابين شخوص نصوصه، حيث تجسدت براعة هذا في مسرحية الطوفان عند كلكامش وهو يفصح عما يعانيه من الشكوك عن علاقة والدته (فاطمة الربيعي) بالكاهن الاعظم (صلاح القصب)، وكذالك معاناته عن اللاجدوى من البحث عن الخلود مابينه وبين صديقه الحميم انكيدو والذي جاراه بقوته وجبروته في مشهد رائع تجسدت جميع مقومات عناصر الصراع المتنامي والذي شد المتلقي واثار اعجاب المتفرجين، كان عملا رائعا اتقن عادل كاظم من خلاله لعبته في هذا النص مما اثار شكوك الفنان بدري حسون فريد في تسائلاته لعادل كاظم في لقاء اذاعي اجراه الى اذاعة القوات المسلحة في حينها حينما بادره بسؤال يتضمن شكوك مقدرة عادل كاظم في صياغة مثل هذا النص المسرحي وبحضوري في قاعة الفنان حقي الشبلي الا ان عادل كاظم اجابه باجابة اعجبت بدري حسون فريد وازالت شكوكه في مقدرة عادل كاظم في كتابة نصوصه المسرحية، انما الذي يتابع نصوص عادل كاظم يجد ان هناك تشابها في اسلوب كتاباته وافكاره وتاثراته بافكار الكاتب الروسي مكسيم غوركي في مواضيع عدة ومنها قضية الانسان والدفاع عنها (توارد خواطر تحدث عند كبار الكتاب العالميين). كان مكسيم غوركي يتناول قضية الانسان العامل وثورته ضد النظام من اجل تحقيق العدالة الانسانية والرفاهية لافراد المجتمع ولاسيما الانسان الذي كان جل همه واهتمامه في معالجة قضاياه، كان مكسيم غوركي ذات نزعة انسانية وفكرية يسارية لا يهاب الموت من اجل نشر افكاره اليسارية والتي من خلالها يثير اهتمامات الشرائح الاجتماعية من العمال والفلاحين في ثورة تعبوية ضد العبودية والاستغلال، وهكذا كان عادل كاظم يخلق شخصيات وينسج افكارها من نسيج ايمانه بهذه الافكار ان كانت شخوصا تاريخية او من الواقع المعاصر، ويتخذها رمزا ليحرر افكاره التقدمية وعن طريقها ليصل الى مبتغاه واهدافه في مساندة قضية الانسان وتحريره من القيود التي طوقت حريته. ان الذي يعرف عادل كاظم ونشاطاته الكتابية في الاحقاب الزمنية الماضية ومقارنة مع نشاطاته في الوقت الحاضر سيكتشف عالما غريبا يحيط به، عالم الغربة التي يعيشه مع نفسه ومع الواقع الذي يحياه، لقد انقطعت اوصال ارتباطاته الكتابية بعد غياب من كان يفهم لغته الفكرية ويهتم بتجسيدها ولا سيما بعد غياب كبار المخرجين في المسرح العراقي والذي كان يتعامل معهم من امثال ابراهيم جلال وجعفر السعدي وسامي عبد الحميد الله يطيل في عمره، لقد انعدمت لغة الكلام في قلم عادل كاظم وتعطلت مناهل الفكر والعطاء ليس عجزا وانما تعشقا وتلاحما مع من كان يفهم لغته ويفسر افكاره في عملية التجسيد والتسخير، لم يبقى منهم من يستطيع مواسات نفسه بذكرى ماقدمه في زمان العصر الذهبي من تاريخ مسيرة المسرح العراقي، ولهذا السبب اخذ عادل كاظم يعيش الغربة في زمن فقد من خلاله المتعة في خلق الجمال وتحرير الواقع من بعض القيود اللا محالة هي بحقيقتها سياجات وظعتها الانظمة المتعاقبة على حرية المفكرين من كتابنا المبدعين فمنهم من هاجر ومنهم من بقي قابعا يستانس بما قدمه ضمن مسيرته الخالدة من الاحقاب الذهبية والتي ذهبت مع صناعها ولم تتكرر، ولهذا اصبحت لديه القناعة التامة والحقيقية وهي انه لاجدوى من مخاطبة شعب مقهور ومغلوب على امره، لا ينفع فيه تحريك اجواء التنفيس والتطهير الذاتي ليحرك في داخله المشاعر الوطنية والثورة على ماهو يعيشه من واقع مرير ماساوي، شعب يعيش الحرمان والقسوة، شعب يتنفس الرمق الاخير ويتجرع الجرعة الاخيرة من السم القاتل، ولهذا كان عادل كاظم يعيش هذه القسوة ويشارك ابناء شعبه هذا الالم، لادراكه المسبق من عدم فائدة ضخ انفاسه الفكرية والمعتقدات التي يؤمن بها لانقاذ هذا المجتمع من واقع الحال المتدهور ثقافيا وسياسيا، حيث ان عادل كاظم يعيش انتاجات اعماله في فكره وتاملاته الذاتية ويبني منها صروحا ادبية من خياله لنفسه كونه يعلم علم اليقين انه يعيش في عالم لا يفهمه ولا ينفع معالجته من المضادات الفكرية من اجل تصحيح المسار الذي حل وباءا على هذا الواقع المتردي الذي نعيشه.
ان عادل كاظم واحة من واحات السراب الذي اصبح يعيش في ظل زمن فقد روعة رجاله وفنانيه، مؤمنا ايمانا يقينا بان الصمت في زمن الغربة افضل بكثير من الكلام والكتابة في عصر شاعت فيه الفوضى والسرقة وافات الخراب والتدهور الاجتماعي، ولهذا فان عالم عادل كاظم اليوم هو عالم غريب عما عاشه كونه يعيش في سياج افكاره المحبوسة في داخل عمق ذاته متعذبا كونه لا يستطيع التحرك فكريا، لا خوفا ولا عجزا وانما ايمانا منه بانه لا جدوى ان تصرخ في اجواء صقيع لايسمع فيه سوى صوته.