حينما نستجمع افكارنا، ونلملم شتات ذكرياتنا، ونستذكر من خلالها عمالقة الفن ورواده من العراقيين ومسيرة حياتهم الفنية، ينتابنا الالم ونحن نستحضر معاناتهم، اولئك العمالقة الذين عاهدوا انفسهم على نشر رسالة المسيرة الفنية في العراق وبالرغم من قساوة ظروفهم الاقتصادية والتي لم تكن تساعدهم على مواصلة مسيرتهم الفنية لولا حبهم للفن وعزيمتهم وارادتهم القوية والتي كانت السبب في اندفاعاتهم من اجل ترسيخ مبادىء هذا الفن الاصيل وايمانهم بقدسية هذه الرسالة التي شجعتهم على المواصلة والتواصل مع هذه المسيرة الفنية والاخذ بزمام امور القيادة والريادة في الوقت نفسه، والعمل المستمر في هذا المضمار الجميل والمليىء بالحب والابداع، جميع هذه العوامل الاساسية جعلتهم ان يقدمون انجازات فنية ترسخت في اذهان جمهورنا مما ينتابنا نحن من الجيل اللاحق الافتخار بما انجزوه، بحيث جعلتنا ان نفتخر بمسيرتهم وما خلفته من الابداع والتالق في تجارب اثمرت عن نتائج مثمرة بمدارس فنية وكل منهم وبموجب مايملكه من الخلفية الثقافية، هذه الانجازات الفنية لم تتحقق الا بفضل ماكان يحملونه في قلوبهم من مشاعر الحب للوطن ولشعبه غايتهم كان تحقيق الانجازات الفنية والمليئة من الابداعات من جمال ماحققته حرفيتهم الاكاديمية والمؤمنة بهذه المسيرة من مراحل تاريخ العراق الفني ،فمن هؤلاء الرواد والمبدعين الفنان القدير والرائد من رواد مسيرتنا الفنية العراقية الاستاذ المبدع الفنان الراحل مكي كميت البدري، والذي ودعنا الى العالم الاخر وهو في الغربة، في المهجر وهو يعيش ايامه الاخيرة والالم يعتصره لهذا الرحيل في المهجر ومودعا لانجازاته الفنية ولمسيرة حياته عن عمر ناهز ( 89) عاما.
اذن -- من هو مكي البدري؟؟؟؟
اشرقت شمس محافظة ميسان في عام 1925 مع ولادة طفل كان منذورا منذ ولادته ان يعيش راهبا في صومعة الفن ، وقدر له ان يساهم في اغناء الحركة الفنية في العراق عن ثقافة وخبرة فنية وهو لايعلم بهذا القدر الذي رسمته العناية الالهية انه سيصبح يوما ما فنانا سيشار له بالبنان، لقد ترعرع هذا الطفل الحديث الولادة في احضان عائلة من عوائلنا المندائية، عائلة اشتهر افرادها بالتقي والعبادة الوحدانية والالتزام بالتعليمات والوصايا الدينية، نذروا انفسهم لخدمة الطائفة المندائية والانسانية اجمع، حيث تناقل افراد عائلته حمل هذه الرسالة فيما بينهم الى ان وصلت الى والده الشيخ كميت.
لقد انهى الفنان مكي البدري دراسته الثانوية مما اظطر ان يعمل مدرسا في وزارة التربية بعد ان عين مسؤولا لقسم التمثيل بالنشاط المدرسي، وبعد خدمة ليست قصيرة في انشطة هذه الوزارة نقل بوظيفته الى بغداد حيث ساهم مع زملائه في النشاط المدرسي على تفعيل الفن ومن خلال طلبة لا يملكون الا الحب بعد ان صقلت مواهبهم الفطرية على اياديه حيث ساهموا في تقديم العديد من الاوبريتات الوطنية المدرسية، هذا الفنان والذي عاش بداية حياته فنانا هاويا دفعته هوايته على تحقيق اعمال فنية وبالرغم من فقر امكانياتها التقنية والمادية، انما كانت غنية بابداعاته وتوجيهاته وتفانيه من اجل ان يساهم في ايجاد اجواء فنية وحركة ذات تجربة رائدة في المسرح داخل قريته جصان في الكوت، حيث زخرت هذه المرحلة من حياته اعمالا فنية منها (عودة المهذب) و(قيس وليلى) والتي قدمت بامكانيات فقيرة ومن على منصة خشبة فقيرة جدا ساهموا في بنائها من خلال (تنكات دهن زبيدة والراعي الفارغة) انذاك، هذه التنكات كانت تعبأ بالطين والتراب وتصف الواحدة بصف الاخرى بعد ان يتم تغطيتها بالكارتونات والبطانيات التي كانت تجلب من دور الممثلين المشاركين في العرض المسرحي، اضافة الى استخدامهم الرحلات المدرسية مكانا لجلوس المشاهدين، حيث كانوا يتبرعون بايرادات العرض المسرحي الى الطلبة من الذين يستحقون المعونات المادية.
بعد استقراره في بغداد وتعرفه على معظم الفنانين والمخرجين والمعجبين بموهبته وحرفيته في التمثيل شجعوه على ان يلتحق بمعهد الفنون الجميلة فرع التمثيل مع استمراره في وظيفته في النشاط المدرسي، وهكذا تعرف على اساتذة المعهد وزادت مشاركاته المسرحية من خبرته وتجربته ولاسيما مع الاستاذ جاسم العبودي في مسرحية (الجوكر) حيث ابدع فيها وعبر عن جمالية الاداء في تحرك جسده وتسخيره على المسرح بجمالية قل نظيره مما لفت انتباه معظم الممثلين من اقرانه الطلبة وشجعوه على الانتماء في مجمع (نجوم المسرح) والذي كان يظم كل من الفنانين سعدون العبيدي وطه سالم وقاسم محمد ومحسن العزاوي واخرون من فناني تلك المرحلة العصيبة من مراحل المسيرة الفنية في العراق.
بعد تخرجه من معهد الفنون الجميلة انضم عضوا في فرقة المسرح الفني الحديث والتي اسسها كلا من المرحوم الراحل ابراهيم جلال وخليل شوقي في عام 1966.
مكي البدري-- فنان عاش ايامه في العراق مبتدأ بمسيرة مليئة حبا واخلاصا لفنه السينمائي والتلفزيوني والمسرحي، عاش هذا الفنان المتالق صامتا وعيناه تشاهد الظلم والظلام، واحشائه محترقة من ظلم مايشاهده من قسوة الزمان، ولكنه كان يقابل كل هذا برحابة صدر وابتسامة امل بالمستقبل مرسومة على شفايفه ومتفائلا بان الايام القادمة سيتمخظ عنها ظهور بطلا قويا وفارسا يهز رماحه باتجاه اعلان النصر ومناصرة قضية
الانسان في العراق، كان يملك من الامل بالتغيير لحياة افضل، وهذا ماكان يؤكد عليه مع قرارة نفسه من اجل ان يعيش الاخرون حياة مليئة بسعادة وعيشا رغيدا، الا ان في بعض الاحيان تاتي الرياح بما لاتشتهي السفن.
لقد ساهم الفنان البدري في العديد من الاعمال المسرحية منها مسرحية في القصر ومسرحية فوانيس لـ طه سالم وقد حضرت عرضها الشيق والممتع من على مسرح بغداد، واستانست بتمثيل الفنان مكي البدري يوم كنت تواق للتعرف عليه، وقد اخرجها الفنان المرحوم الاستاذ ابراهيم جلال مستغلا قدرة الفنان مكي البدري وحرفيته في التمثيل، اضافة الى العديد من المسرحيات والاعمال التلفزيونية والسينمائية والتي من خلالها ازداد خبرة وتجربة واحتكاكا مع المخرجين الرواد من امثال المرحوم خليل شوقي وابراهيم جلال، اضافة انه ساهم في تطوير حركة الفن المسرحي كونه كان امثولة وقدوة في الاداء التمثيلي، كان يتمتع بثقافة نظرية عالية ولا سيما بعد اطلاعه على نظرية ستانسلافسكي وتاثره بكتاب (اعداد الممثل) حيث كان يطبق هذه النظرية على نفسه من خلال ايجاد ابعاد الشخصية وتحليلها، حيث كان يجتهد من خلال تجسيد الافعال الانعكاسية والمرسومة على ملامح وجهه نتيجة ردود الافعال الانعكاسية التي يتلقاها من الممثلين المشاركين معه في المشهد الواحد، كان هذا الممثل القدير قدوة ونموذج للممثل المتكامل، يعتني في تصميم مكياجه واختيارات ازيائه واكسسواراته في التمثيل ويجسد العلاقة الجمالية مابينه كممثل وفقا للابعاد المرسومة وتحليلاته المتفقة مع الشخصية المرسومة من قبل المؤلف والمخرج معا، لقد ساهم الفنان مكي البدري مساهمة فعالة في اغناء الحركة المسرحية، اضافة انه كان نموذجا للممثل الذي يبدع ويبتكر ويرسم شخصيته باتقان، كان كثير الاسئلة والبحث والتقصي عن شخصيته المسرحية ولا يتواني عن الاستفسار من اصغر ممثل وياخذ بملاحظاته ايمانا منه بان اية ملاحظة هي تساهم في تطوير شخصيته من على المسرح او في التلفزيون، فقد صادف وان شاركته في عمل تلفزيوني بعنوان (الدب) وقد فاجئني انه يحب ان يعرف وجهة نظري عن حركة كان يؤديها وهو يراقص بطلة المسلسل، ففي بادىء الامر شعرت بالامتعاض منه معتقدا بانه كان يستهزء مني ولكن فيما بعد علمت من بعض زملائه انه شكوك في كل حركة يؤديها ولا يستقر له راي الا بعد الاخذه باراء من يشاركه العمل ويستقر عليه وهو مطمئن على ادائه الفني .
لقد شارك العديد من الفنانين المحترفين واصبح نجما من نجوم الفن العراقي، منهم المرحوم فاروق فياض ووداد سالم ومنذر حلمي وكريم عواد وخليل شوقي.
لم يكتفي هذا الفنان باعماله التلفزيونية ولا المسرحية، وانما امتدت مساحة مشاركاته في السينما العراقية في فيلم (الحارس) والذي كتب قصته قاسم حول واخرجه الفنان الراحل خليل شوقي.
وكذالك شارك في فيلم (بيوت ذالك الزقاق) وفيلم القادسية) وكذالك في
فيلم (العاشق) والذي اخرجه المخرج السوري منير فنري، اضافة الى العديد من الافلام السينمائية، لقد ازداد الاقبال على اشراك هذا الفنان في معظم الافلام السينمائية نظرا لحرفيته في التمثيل واخلاصه في العمل وحبه وتفانيه والالتزام في المواعيد المقررة ان كان في السينما او في المسرح.
هكذا يبقى هذا الصرح الفني متعلقا في اذهان الفنانين وجمهوره الذي كان يتابع اعماله بحب وشغف، لقد بنى الفنان مكي البدري مسيرته بايمان ومحبة وقلبه ينبض بحب العراق وشعبه، كان يتالم وبصمت وهو يعيش اوضاع التردي والتدهور الثقافي والفني، لقد عرفت الفنان مكي البدري فنانا دؤوبا ومخلصا ومتواضعا وبالرغم من نجوميته انما بقي ملازما لتواضعه ومحبا لخلق علاقات انسانية والمبنية على المودة وحب الاخرين، كان يحب فنه وقد حدثني عن هذا الحب من خلف كواليس استوديو رقم (2) التلفزيوني في المؤسسة العامة للاذاعة والتلفزيون يوم كنا نسجل تمثيلية الدب من اخراج المخرج التلفزيوني محمد يوسف الجنابي، فلا زلت اتذكر ابتسامته والتي كشفت عن مرارة القسوة التي كان يعانيها من تلك الاوضاع التي لم تكن تخدم الانسان، وبحسرة كان يخبرني بانه يعيش على مضض وانا انصت اليه وافكر بكلماته وباحاسيسه المتعطشة للحرية وللسعادة، هذا الانسان المليىء محبة واخلاصا للعراق ولشعبه وهو يحمل في قلبه محبة لا يشوبها الفرقة ولا التفرقة مابين اطيافه، حتى واني بعد فترة من مزاملته لي اخبرني انه مرتبط بي بصلة انسانية وجذرية حينما اخبرني قائلا:
جوزيف ترى اني وياك ولد الخالة، عندها انتبهت الى مايعنيه فاستغربت من كلامه حينما فاجئني به لكونني لم اسمع منه مايشير الى انه يملك ميولا للتفرقة ان كانت على حساب الدين او القومية بقدر ماكان انسانا معتدلا يحمل في قلبه محبة لا توصف لفنه وللانسان، واشد ماكان يؤلمه هو غياب زوجته ووفاتها مما اظرته هذه الظروف لقبول الهجرة، وانه كان متالما اشد الالم لقبول هذه الفكرة لكون امنيته الاخيرة من الحياة ان يغطس وقبل وفاته بنهري دجلة والفرات وان يغتسل بهما.
ان ماكان يحز في نفسه وكما هو الحال مع الذين سبقوه في الهجرة من الفنانين هو تهميش دورهم وضياع مراحل سنين الابداع والعطاء، لقد عاشوا الفقر والحرمان والضياع مابين انظمة لم تعترف بمسيرتهم مما اظطر العديد من الرواد والمفكرين المبدعين ان يهاجروا ارض الوطن لا كرها وانما هروبا من جحيم انظمة لا تعير اهمية لدور الفنان ولمسيرته، لقد ضاعوا في عالم الغربة والاغتراب عن اوطانهم منهم خليل شوقي وعائلته، زينب وناهدة الرماح واحلام عرب وكنعان علي ووداد سالم وزوجها اديب القليجي والعديد من الفنانين والذين ساهموا في تحريك عجلة الفن العراقي وضحوا من اجل ترسيخ مسيرة الفن والحاقه مع حركة المسرح العربي والعالمي، انما هذا العطاء والانجاز من قبل روادنا الفنانين جوبه بالتهميش والنكران وعم الاعتراف بدورهم والاهتمام بهم وبعوائلهم ، مما
فضلوا الهروب من جحيم الانظمة المتلاحقة لا كرها للعراق ولا لشعبه وانما هربا من عذاب وقساوة الحياة التي عانوا من اجل مقاومة قساوتها ومن دون جدوى، ولهذا كانت القبور التي تحتضن اجسادهم ارحم من العيش بين قساوة تلك المراحل العصيبة من حياتهم، فماذا يحل بكم حينما يدعونكم للمشاركة في عمل فني وطيلة فترة التدريب وانت لا تملك مايساعدك على التنقل مابين وبين؟؟
هكذا كان الحال مع فناننا الراحل مكي البدري حينما كان يسير مشيا على الاقدام من الاذاعة والتلفزيون ومتوجها الى دائرة السينما والمسرح ومرورا بكرادة مريم وهو لا يملك في جيبه اجرة النقل لتساعده على تحمل مشقة السير، سوى حقيبة قديمة يتابطها تحت ابطه تحتوي على كتب ثقافية وجرائد يومية وبعض الاوراق البيضاء يساعد بها من يحتاجها.
جميع هذه المعانات كان يتحملها فقيدنا الراحل وهو يتالم بصمت الى ان نفذ صبره عندما عزم على الرحيل والهجرة الى عالم الغربة وعيونه تذرف دموع الالم والحسرة على ترك موطنا ترعرع بين احضانه، لقد هاجر الفنان مكي كميت البدري بعد ان اهملت مسيرته وتهمشت حياته الفنية وعاش العوز والحرمان والمضايقات الامنية في الوطن، هاجر الى السويد والتحق بابنائه وكما هاجر من قبله العديد من رواد الفن العراقي، والبقية الباقية مازالت تنتهز الفرص التي تساعدها على الهروب من جحيم وقساوة المرحلة الظرفية التي يعيشونها في العراق، وهكذا اسدلت السار عن ذكريات هذا الفنان القدير ورحل الى العالم الاخر عالم الارواح الطاهرة، وهو يعيش الحسرة وامنية لم تتحقق قبل رحيله وهي، ان يغطس في نهري دجلة والفرات ولسانه يلهث باسم العراق وشعبه.