حينما اتصفح في صفحات ذكرياتي عن معظم فناني العراق، واقرأ عن سيرتهم الحياتية والفنية، اتوقف عند حقيقة مفادها، ان الفنان العراقي هو الذي بادر بخلق المسرح في العراق، وهو الذي ادامه من خلال تضحياته ونكران ذاته، وليست للانظمة المتلاحقة والمتعاقبة في تاريخ العراق دورا يذكر في ديمومته وتطويره.
ان الفنان العراقي هو عنوانا لمأساة الفنانين الذين اعطوا ولم ياخذوا، لقد اعطوا من جهدهم، وقطفوا ثمار هذا الجهد ليكون هدية لطلبتهم لتغذيتهم من ثمار هذا الجهد كي يساعدهم على نشئة فيها محبة للفن والابداع شعاره الوفاء والاخلاص لخشبة المسرح المقدسة، ان مأساة الفنان العراقي لاتكمن في حياته الماساوية والتي لا تعرف طعم السعادة الحياتية، كانت سعادة الفنان يوم اعتلائه خشبة المسرح ومن ثم انحنائه تحية لجمهوره مع ايقاعات متناغمة واصوات تصفيقه المعجب بابداعاته مودعا لهم بعد تقديمه لهم من عرض مسرحي امتاز بجمالية التعبير وبعدها يذهب ليهنأ ليله محتضنا وسادته ليعيد جمال صورة العرض الذي قدمه لجمهوره مع اصداء تصفيق ذلك الجمهور اعجابا بعرضه والذي مازالت ايقاعات تصفيقهم تتناغم على مسامعه، وحتى وهو مستلقيا على فراشه لا يحلم الا في كيفية اعادة ماقدمه في مخيلته بشيىء من التالق والابتكار الجديد فيه من التطور والابداع ليقدمه تكريما لجمهوره الحبيب في عرض جديد، فتنتابه الغبطة والفرحةحينما كان يسرع الى الفرقة المسرحية والتي ينتمي لها ليخبر زملائه من الفنانين في اليوم الثاني عما توصل اليه خياله وابداعاته الفكرية ليطبقها بنفسه على خشبة المسرح.
كان الفنان العراقي يعيش عالمه السحري بكل حواسه وبعيدا عن الانانية، كان يسهر الليالي من اجل التمارين المسرحية او من اجل تصوير مسلسلا تلفزيونيا او مشاركته في تصوير فلما سينمائيا ومن دون احساسه بالعناء او الملل من عمله، همه وتفكيره ينصب بنتائج هذا الجهد والذي سيقرأ اخباره على واجهات الصحف والمجلات الفنية، او ابداء الاعجاب بعمله من قبل الجمهور والنقاد والمعنيين بشؤون المسرح والفن السينمائي والتلفزيوني، لم يكن همه اضافة المزيد من ارصدته الفنية، بقدر ما كان يهتم باضافة من الاعمال الابداعية الاحترافية والتي كان يؤديها في عالمه المسرحي او السينمائي او التلفزيوني، وهو مفتخرا بهذا الرصيد من الاعمال التي نسجت ابداعاته من جمالية التعبير الفني، ارصدة فنية تشع منها نجوميته وشهرته بين الاوساط الثقافية والفنية، هذا الجهد والعناء الذي تميزت بها حياته الفنية لم يجني شيئا من الانظمة الحاكمة؟
سوى كلمة (عافرم ابدعت) وهذه العافرم ايضا يحمد الله ويشكره على انه سمعها من فم اصحاب الكروش المتربعة على كرسي الحكم، هكذا كان حال الفنانين من اصغرهم والى اكبرهم من الكتاب والمخرجين المبدعين من الذين رحلوا بصمت واسدل التاريخ ستاره على حياتهم واصبحوا في طي النسيان الا من قبل الاوفياء الذين يتذكرون ماثرهم وخطوات مسيرتهم الابداعية، ولمساة فنهم حينما اشتهرت على النطاق الاقليمي والعربي.
انها قوافل عديدة رحلت من فناني العراق والذين كانت لديهم ريادة في تطوير اساليب المسرح وديمومته ضمن هيكلية جمالية تالقت في المحافل الجماهيرية ولا سيما في المهرجانات العربية في سوريا والقاهرة والجزائر، هذه القوافل التي رحلت بصمت مرسخة مبادىء الفن الاصيل ومخلفة وراءها لمسات من التطوير والتغيير وجمالية الابداع والتي تميزت بها مسيرتهم فمنهم المرحوم حقي الشبلي اذا ما تناولنا الحقبة الزمنية من تاريخ المسرح العراقي من خلالهم مع الاعتذار لتاريخ الفنانين العراقيين والذين سبقوه بالتجربة الفنية.
وبعد ذلك تلاه رعيل المبدعين من اساتذتنا الرواد من امثال ابراهيم جلال وجعفر السعدي وبهنام ميخائيل وجاسم العبودي ويوسف العاني وسامي عبد الحميد وبدري حسون فريد وجعفر علي، والعديد من اسماء هذه القوافل والتي لا حصر لذكرهم من الذين تركوا لمسيرتهم ارث حضاري فني جميل ورحلوا بصمت (وكان الله مع المبدعين).
ومن بين هذه القوافل النورس الذي رحل يصمت وعاش صمته ومع افكاره المتزاخمة في مخيلته ومكرسا اياها في صومعة المسرح من اجل ان يعانق الحياة الفنية باصالة لا يضاهيها شيئا سوى النتائج التي اضافت لمسيرة حياته تجربة من تجارب حياته الفنية واصبحت هوية له، انه الفنان الراحل وجدي العاني.
ولد هذا الفنان العريق في مدينة الناصرية سنة 1940 المدينة العريقة والتي انجبت العديد من الفنانين الموسيقيين والمسرحيين من امثال الفنان طالب القره غولي ومحمد جواد اموري وحسين نعمه وعزيز عبد الصاحب اضافة الى اسماء هذه النجوم المبدعة اسم الفنان القدير وجدي العاني، لقد شغف هذا الفنان ومنذ صغره في فن التمثيل، حيث في حديث له مع احد الوسائل الاعلامية يقول:
انه كان في الخامس الابتدائي حينما كانت رغبة استاذ الموسيقى والنشاط الفني المدرسي في ان يخرج مسرحية صقر قريش، (عبد الرحمن الداخل) ولكنه لم يفلح في تحقيق اخراج هذا العمل، وبعد قراءة النص من قبله ومع زملائه الطلبة ترسخت هذه المسرحية في ذهنه، ويكمل الحديث قائلا: لم اكن في حينها اصدق بانني ساحقق هذه الرغبة وساقف على خشبة المسرح وانا في هذه المرحلة الابتدائية لامثل امام جمهور من المشاهدين.
وهكذا بدأ حلمي لتحقيق هذه الرغبة في اقتحام صعوبة هذا الجدار وانا بلا تجربة فنية سوى مااشاهده من الافلام العربية وبعض التمثيليات القصيرة في النشاط المدرسي، ويضيف قائلا: وانتظرت العطلة المدرسية واشتريت هذا الكتاب والمطبوع فيه هذه المسرحية، فحينما كنت اقرائها استعين بوالدي لتفسير لي بعض المعاني ومفردات الكلام والجمل الحوارية، وبعد انتهاء العطلة الصيفية وفي بداية المرحلة الدراسية الجديدة ذهبت الى مدير مدرستنا وفاتحته برغبتي العمل على اخراج هذه المسرحية، ولم يكاد ان يصدق ماسمعه مني ومتعجبا من جراتي فلم يحرجني بقدر ماشجعني ووافق على طلبي وعلى الفور ذهبت لاجمع اصدقائي من طلبة المدرسة واسندت لكل صديق دورا من ادوار المسرحية وانا اخذت الشخصية الرئيسية والتي هي صقر قريش (عبد الرحمن الداخل) واستعنت باثاث منزلنا لاستعماله كديكورا في المسرحية وابتدات العمل على اخراج هذه المسرحية في الوقت ذاك لم اكن افهم شيئا من الثفافة المسرحية سوى الاعتماد على حسي الفطري، انما والحمد الله خرج العمل بصورة جميلة بحيث اشاد به معظم الاساتذة واولهم مدير المدرسة-- هكذا ابتدأ هذه الفنان مسيرته الفنية بفطرة حسية فيها من الابداع والجمال منذ صغره، انه الفنان وجدي العاني.
يقول عنه الفنان المغترب اديب القليه جي من صوفيا – بلغاريا، تعرفت عليه سنة 1964في مقهى البلدية في بغداد، هذه المقهى كان يجتمع فيها جميع الادباء والفنانين والكتاب، يومها فكر الجميع على اصدار مجلة او صحيفة فنية ادبية ثقافية تعني بنقل اخبار الفنانين والادباء ونشر المقالات الفنية والادبية والثقافية وتعني ايضا بتجربة واراء الفنانين الرواد العراقيين، انما الحيرة في كيفية اصدارها، حيث ناقشنا جميع المحاولات والتي تمكننا على اصدار مثل هذه الصحيفة الا اننا لم نتوصل الى حل يساعدنا على اصدار مثل هذه الصحيفة الفنية، واذا بالفنان وجدي العاني يخبرنا بان والده صاحب امتياز صحيفة باسم صحيفة اللواء تصدر في الناصرية والان هي متوقفة عن الاصدار، فعرض علينا شراء امتيازها من والده ونقل طباعتها الى بغداد، وهنا لم نتمالك انفسنا من شدة الفرح وحاولنا جمع المبلغ والذي تمكنا من خلاله شراء امتياز هذه الصحيفة وعملنا على اصدارها في بغداد الا ان تكاليف الطبع ارهقنا ولهذا لم يكتب لها الاستمرار فتوقفت عن الاصدار.
لقد عرف الفنان وجدي العاني مؤلفا وممثلا ومخرجا، حيث قدمت دائرة السينما والمسرح مديرية المسارح (الفرقة القومية للتمثيل) مسرحية (تكلم ياحجر) من تاليف محي الدين زنكنه واخراجه حيث لاقت عروضها النجاح ومن خلال اخراجه الذي ابهر الصحفيين والمعنيين بشؤون المسرح اضافة الى اقبال الجماهير على مشاهدة عروضها.
لقد تميز اسلوب وجدي العاني في الاخراج اهتماما بالممثل وبهندسة الديكور والذي يعتبره الاساس كي يستطيع ان يرسم عليه حركات الفنانين بتشكيلات برع من خلالها بتحريك الممثلين ببراعة ذالك الفنان المبدع اضافة انه كان يهتم بتحريك المجاميع ليرسم من خلالهم لوحة تشكيلية تجسد الافكار الذي يروم توصيلها الى المتلقي، حيث نجح في هذا الاسلوب ولهذا استطاع ان يحصد على الشهادات التكريمية ولاسيما تلك التي استحقها على اخراج
مسرحية (لا تقولوا لماذا) والتي منحته اياها مديرية النشاط المدرسي لمحافظة يغداد- الكرخ بتاريخ 1- 1- 1975، وكذالك حصل على شهادة تكريمية من وزارة الثقافة والاعلام – المركز العراقي للمسرح، لريادته المثمرة في المسرح العراقي سنة 1977.
وجدي العاني فنان كان يحمل الما وحزنا حينما كان يصادفه من المعوقات والتي كان يضعها بعض الرفاق من رفاقه الفنانين في سبيل عدم تنفيذ طموحاته في التغيير والتطوير، هذا الفنان كان كثير التامل مع ذاته ونفسه ليفكر في كيفية تصوير الحدث بلوحة تشكيلية يجسدها من على خشبة المسرح، ولهذا نجده دائم الابتكار والابداع وبعيدا عن التقليد ليخرج بعمل متميز يضيف الى اعماله السابقة تجربة ذات خصوصية في الاخراج ومن خلال رؤية ناضجة يجسد فيها احاسيسه ساعيا الى توصيل الفكرة الاساسية للمتلقي باسلوب يشد الجمهور ويساعده على متابعة العرض المسرحي، كان يهتم بخلق العلاقة مابين الممثلين على المسرح ويؤكد على تجسيد هذه العلاقة ضمن المشاهد المتلاحقة ليساعد من خلال هذا الاهتمام بناء الخط الدرامي وتنمية الصراع باسلوب بعيد عن الافتعالية وقريب الى الاسلوب الواقعي، كان هذا الفنان يهتم بالكلمة وتفسيرها وهذا ماكان يجسده في معظم اعماله كممثل ويؤكد عليه ان كان مخرجا، يخلق الشخصية ويسخرها وفق معالمها الصحيحة ويبني علاقتها مع بقية الشخوص في المشهد الواحد، كان يهتم بالالقاء والتلوين، يهتم بتجسيد المشاعر والاحاسيس الانسانية والتي كانت تعيش في ذاته وفي صمته ليجسدها ومن خلال شخوصه وبلغة تعبيرية فيها من جمال التكوينات للمجاميع ويهتم في كيفية تحريكها، كان يهتم بالحركة الكلاسيكية كونها تعبر عن جمالية مرحلة من مراحل المسرح العالمي وتكييفها في صورة تحمل من الشكل المعاصر لخلق حالة من حالات الطبيعية للشخصية وجمالية الواقعية المعاصرة والابتعاد عن الكلاسيكية بشكلها التقليدي.
لقد عرف عن هذا الفنان انه كان يملك قلبا مليئا بالمحبة لاصدقائه الفنانين ويكن لهم الاحترام ومن خلال تبادله اطراف الحديث عن المدارس الفنية للمسرح وعن اهمية التغيير والتطوير في الاسلوب ان كان على صعيد الكتابة او التمثيل او في الاخراج. عمل على اخراج مسرحية (رغيف على وجه الماء) من تاليف عزيز عبد الصاحب كذلك عمل على اضافة كل ماعنده من الخبرة والتجربة الفنية في عمل قام بتوليفه فنيا واخرجه في تجربة ناجحة، حيث ذكر هذا في حديث له قائلا: (مالذي نقدمه لاصحاب الكلمة العربية المبدعة؟ مالذي نقدمه لصناع الكلمة ونحاتها وناثري سحرها، لا شيىء انقى من الكلمة تفسها، انها صرختكم، نقدمها لكم ممتزجة بصرخة الفنان عبر قناة الدراما، لم نرغب تحطيمها او تمزيقها، بل كان هدفنا جوهرها النبيل، نبضها الساخن، دفقها وحيويتها، وماتحمله من رؤى، وما يعمل في داخلها من صراع، فهل سنوفق في تجسيدها كحالة شعورية معبرة ومؤثرة في المسرح؟ هل ستنوء تحت هذا العبىء ام ستتالق؟ (وجدي العاني).
لقد عاش نورس المسرح العراقي الفنان المخرج والمؤلف والممثل وجدي العاني طيلة حياته وهو عاشقا لفنه ومقدسا له، يؤمن بقدسية وطهارته.
توفي هذا الفنان وامله ان يشاهد بام عينيه ازدهار وتطور المسرح العراقي، انما تراه وهو يتكلم عن ازمة يعيشها العراق بعد غياب رواده من الفنانين والحسرة والعبرة تخنقه وصوته يتهدج بكلام مليىء بالحزن على مستقبل المسرح العراقي، فلقد خسره العراق وكما خسر من قبله العديد من الفنانين الرواد ولم يبقى من ذكراهم الا اعمالهم الخالدة وعلى مر الزمن.
يعد الفنان وجدي العاني من مؤسسي الفرقة القومية للتمثيل اضافة انه تميز من بين اقرانه بانه كان ممثلا وكاتبا ومخرجا، فله العديد من الكتابات الاذاعية والتلفزيونية، وكما انه كان نجما مسرحيا وتلفزيونيا واذاعيا وسينمائيا، هذا الارث الحضاري من الفن الملتزم تعرض الى ازمة صحية شلت حركته ومنعته من العمل الفني وعلى الرغم من العناية الصحية والتي تلقاها في العراق وخارج العراق الا ان ماكان مكتوبا لا يتغير، حيث توفي هذا الفنان العراقي عن عمر ناهز السبعين عاما.
لقد سطر هذا الفنان الرائد في سفر الريادة ابداعا متميزا في تاريخ المسرح العراقي، مسيرة طرزت اعماله بالعديد من الاعمال التلفزيونية والمسرحية والاذاعية والتلفزيونية، واخيرا فقد فقد رحل وحمل جثمانه من ابو ظبي الى بغداد بعد ان ترك يعد رحيله الى مثواه الاخير حالة من الابداع والتالق وتجربة فنية لا تنسى.