اذن هنا توصل الانسان الى محاكاة بعض من الظواهر الطبيعية وتقليدها ومحاكاتها ضمن اشكالها الحقيقية والواقعية مستعينا بالطبيعة الخلابة لينقل عنها الالوان والاشكال والاصوات والاحداث ليقابلها بالمشاعر الحسية والمتابعة والترقب ورصد حالات الخوف والرعب لينتج عنه ردود افعال انعكاسية لمقاومتها والابتعاد عن مخاطرها.
(ورد في شرح مافاتنا من الموضوع (المحرك والحركة والمتحرك) وهنا ساتي على تبسيط هذه التعاريف ليتم فهمها).
لنلاحظ عملية انفجار البراكين والتي تنتج عن تفاعل انصهار المعادن في داخل الاراض الجبلية واحتباس الغازات المحصورة والتي تجد لها منفذا تنفجر من خلاله بحركة عاصفة وقوية ومع تتطاير النيران المستعرة والمعادن المنصهرة والتي تعالت بامتداد علو السماء مع حدوث اصوات مرعبة والوانها الحمراء الداكنة والبنية والوردية والصفراء، لاحظ هنا (الصوت والحركة كرد فعل خارجي واللون والشكل) ورد فعل هذا المحرك على المتحرك (الانسان) في العصر الحجري، والذي يومها لم يكن يعلم شيئا عن الوقاية من اخطار انفجار البراكين لتحدث الماساة، اما بموته او بتشوهات جسده، واخيرا تكون نهايته الموت، هذه العملية والتي كانت تنقل احداثها عن طريق من شاهد مثل هذه الحالة من ذالك العصر الى الذي لم يكن شاهدا على مثل هذا الحدث (الراوي) فكيف سيتمكن هذا الراوي من نقل احداث الانفجار ومحاكاته الى المتلقي بصوته وانفجاره وتضخيم الحدث وتقريب احداثه للمتلقي واثارة الرعب فيه؟
فكان يسود نقل هذا الحدث من قبل الراوي عوامل عدة من الشد والتشويق والتهويل والرعب باصدار الصوت ومحاكاته، بل باشد مما هو عليه، لاثارة الرعب لدى المتلقي وخلق عملية الشد والتشويق للحدث المنقول ليزيد من تمتعه ليتعاطف مع الراوية في متابعة ماينقله من الصورة الحسية لذالك البركان ليجعله يعيش الحدث --- فنلاحظ من هذا انه لدينا ثلاثة اصناف لنقل الحدث وهي:
الفعل والمحرك والمتحرك.
فالفعل هو ناتج عن خارج ارادة الانسان، اي فعل خارجي من واقع الطبيعة (البركان) والمحرك للفعل هو الراوي والذي ينقل الفعل، اي يروي كيفية انفجار البركان، والمتحرك هو المتلقي والذي تحركت مشاعره وردود افعاله نتيجة المحرك له فاصبح كائنا متحركا بفعل المحرك والذي تحرك بنقل الفعل الاصلي (الحدث) اي الانفجار، والمحرك لهذا الفعل هو الراوي (المحرك) والذي يروي كيفية انفجار البركان، والمتحرك هو المتلقي والذي تحرك بمشاعره وردود افعاله نتيجة المحرك له فاصبح كائنا متحركا بفعل المحرك والذي تاثر بردود افعال الفعل الخارجي (الحدث والذي هو الانفجار).
اذن من هنا ومما ذكرنا، علمنا بأن هذا العصر هو العصر الحجري ماقبل الميلاد والذي يتمثل بحياة الانسان على الارض منذ مايقارب المليونين او المليون سنه تقريبا ماقبل الميلاد، ولم يعرف عنه شيئا الا بفعل استنتاج بعض علماء الاثار من اكتشافات بعض الاثار الموجودة في حوض البحر الابيض او في فرنسا او في بلاد مابين النهرين.
فالعصر الحجري اعتمد فيه الانسان على الحجارة وصنع منها منحوتات جميلة تفنن بها من خلال صناعة السكاكين والسيوف والرماح لاستعمالها في الصيد وللدفاع عن نفسه، وكذالك اصبح يتفنن في جمالية هذه الصناعة باشكال نافست الاخرين، بحيث اخذ يتفنن بصناعتها مراعيا جمالية الصنع باشكال نافست الاخرين في صناعتها، واخذ يحاكي الطبيعة باضفاء بعض الالوان عليها، اضافة الى محاكات اشكالها يختارها من واقع الطبيعة، اضافة الى الرسم وفن النحت، حيث اقتنى انسان العصر الحجري من صخور الطبيعة انواعا مختلفة من الاسلحة ليدافع عن نفسه من خلال الاحجار المدببة الرؤوس، وكذالك صنع من انصهار بعض المعادن رماحا وسيوفا، وغيرها من مختلف الاسلحة الحادة لاستخدامها في حياته الواقعية الاجتماعية في تقطيع اللحوم واغصان الاشجار وكذالك في الطهي.
اذن من هذا التاريخ اصبحت ظاهرة الراوي مالوفة لدى انسان العصر الحجري لرواية الاحداث (الانفجارات البركانية والهجوم على الحيوانات المفترسة والمعارك والتي كانت تحدث فيما بينهم) وكذالك فن التشكيل والنحت، والتي تجسدت في العديد من الرسومات التي كانت تحاكي الطبيعة وبما فيها من الاشكال والالوان، اضافة الى ظهور فن النحت في داخل الكهوف الطبيعية والتي صنعتها الظروف الطبيعية من الامطار وجريان سيولها، وهبوب الرياح المحملة بالرمال، بحيث اصبح الانسان يحاكي اشكالها على ارض الواقع ويتفنن بنحت جدران الكهوف، وتجميلها بالرسومات والرموز التي يستمتع بمشاهدة مناظرها، اضافة الى الصناعات الجلدية اليدوية ومن اغصان واوراق الاشجار لاستخدامها في كساء اجسادهم اضافة الى صنع مايحتذونه في اقدامهم من الشحاطات، وكذالك التفنن في صناعة المشاحيف النهرية والتي كانت تسهل عليهم صيد الاسماك.
فنستنتج من شرحنا هذا ان الطبيعة كانت متجسدة بجمال روعتها، باشكالها والوانها وباحداثها، ولهذا بعد مضي فترة من التاريخ اي مابعد العصر الحجري، عندما تطورت الحياة تطورا نسبيا اخذ الانسان بالاعتماد على محاكاة الطبيعة في صناعة احتياجياته، اضافة انه بدأ يستانس بجمال مايشاهده ويحاكيه من جمال المنظر الطبيعي وينقله على جدران كهوفه-- ضمن هذه الظروف التي كان يعيشها اصبح لزاما عليه تقليد بعض الاصوات والتي كانت تعيش في حياته كمثل اصوات الحيوانات المفترسة والطيور الجارحة والمؤثرات الصوتية للبراكين والزلازل، فلم يبقى عليه الا استخدامها وذالك بتقليدها ومحاكات اصواتها خدمة له، ولهذا صنع بعض الابواق والالات الموسيقية والتي اعتمدت على النفخ وعلى جلود الحيوانات في صناعة اوتارها، ولا سيما في بلاد مابين النهرين، فضمن هذه الحقبة الزمنية، اصبحت للموسيقة مكانة رفيعة عند المجتمع ماقبل الميلاد ولا سيما عند الاغريق واليونان، والحضارة البابلية والفرعونية، وبعدما عرفت الكتابة وتدوين بعض الرقم الطينية بلغات كان اعتمادهم عليها، اي ماقبل ظهور اللغة المسمارية والتفنن برسم اشكال حروفها ورموزها اعقبتها اللغة التشكيلية من رسم حروف جميلة واعتمادها في الكتابة وتدوين بعض القوانين، وكما كانت في مسلة حمورابي، وهنا ايضا ظهرت فنون الدراما بعدما احتاجتها شعوب عاشت على طقوس الديانات الوثنية من تجسيد حكايات اساطيرملوكها، عندها تبلور الفن باشكاله المعهودة (التمثيل والرسم والنحت) فقد ركزت شعوب اليونان والاغريق على القاء القصائد الشعرية وعن طريق شعرائها انذاك من (اسخيلوس وسوفوكليس وهوميروس) وكذالك اشتهرت في حينها الرسوم التشكيلية للاستعانة بها لتجسيد اماكن الحدث في القصيدة الشعرية، وبعدها اعتمد البابلون على الفنون التشكيلية وعلى الترانيم الطقسية في معابدهم لتمجيد الهة اشور وبابل، اضافة انهم اعتمدوا على تجسيد بعض الرموز لتجسد قوة ملوكهم، ومازالت اثار نينوى المسروقة وبابل شاهدة على ذالك، ولاسيما في بابل المدرجات للمسرح البابلي.
وهكذا كان الامتداد للفنون الجميلة بانواعها المسرح والنحت والتشكيل والموسيقى من بداية العصر الحجري والى العصر البابلي والاشوري، معتمدين بذالك على الطبيعة ومستلهمين منها جمالية التعبير وعن طريق المحاكاة للطبيعة ونقل مفاتن جمالها الى الحياة الواقعية المعاصرة، اي مابعد العصور الحجرية والعصور اليونانية والاغريقية والبابلية والاشورية والفرعونية والفينيقية وما بعدهم، اي ما بعد الميلاد، تطور الفن باشكاله بعد ان كانت الطبيعة استلهاما له ووحيا لنقل وبمحاكاة جمالييتها بابداع خلاق متطور غيرت العديد من وسائل التعبير ومع تطور التقنيات الفنية واساليب الفن ومدارسه المختلفة في عصرنا الراهن، غايتهم من ذلك، التغيير والتطوير نحوى الافضل.