هذا العنوان هو الموضوع الذي قد يثير التسائلات عند معظم قرائنا الاعزاء ولربما قد لا يجد الاجابة الوافية عليه، مما يدعه ان يغوص في عدة مصادر للبحث عن هذه الاجابة، وقد يجدها انما يقع بين امرين، اما القناعة بهذه الاجابة واما الشكوك بها مما يدفعه فضول المعرفة للبحث من جديد على اليقين المعتمد من المصادر المختلفة ليرضي فضوله في الاجابة على هذا السؤال وهو، هل الفنان يؤثر في البيئة ام البيئة تؤثر في الفنان؟.
هذا السؤال اشبه بسؤال:
(البيضة من الدجاجة لو الدجاحة من البيضة) ؟
وللعثور على الاجابة المقنعه وجب علينا البحث في تاريخ وحياة المجتمعات وتاثيرات الافراد في محيطه الذي يعيش فيه، اضافة الى البيئة التي ترعرع فيها من عادات وتقاليد وثقافة ، جميع هذه المتعلقات الحياتية بنشأة الفرد قد تغير الانسان او قد تتغير بفعل تاثيرات الانسان عليها. ونحن حينما نتناول مثل هذا الموضوع فهوى يعتمد على خصوصية الحياة التي يعيشها الفرد والتي قد تؤثر من سلوكيته في الحياة ومن خلال تاثير البيئة ومتغيراتها الطبيعية على حياته ليكتسب منها تطبعا تؤثر في حياته الثقافية والاجتماعية وحتى الدينية والسياسية، وهذه المفاصل الحياتية الواقعية لها تاثيراتها على الفرد والفرد ايضا له نفس التاثيرات على هذه المفاصل الحياتية والتي يعيشها الانسان مع مجتمعه.
فلو عدنا وتناولنا سيرة حياة معظم كتابنا العظام ممن اثروا في مفاصل الحياة المختلفة، وتحريك عجلة الفن والثقافة والسياسة والحياة الاجتماعية في مجتمعاتهم لشاهدنا ان هناك تاثيرات متبادلة مابين البيئة والفنان او الاديب وبالعكس، فقد يؤثر الفنان في البيئة فيعمل ومن خلال تجاربه الحياتية والثقافية ومن خلال ميوله واتجاهاته السياسية والفلسفية، قد يؤثر تاثيرا مباشرا على الحياة الاجتماعية ومفاصلها الحياتية (الفنية والثقافية والسياسية والدينية)، ولهذا نلمس العديد من التاثيرات والتي طالت المجتمعات ومن خلال محرك تاثيرات الادباء والفنانين والمثقفين على البيئة وعلى الحياة التي يعيشها الفرد، وقد نتج عن هذا الحراك ثورة عارمة في الحياة الاقتصادية ونهضة تنموية وثقافية وسياسية وفنية تقود المجتمع الى حياة افضل من سابقتها، او قد تكون ادنى مما عاشها الفرد مقارنة مابين الماضي والحاضر، فالامثال عديدة تثبت صحة مانذكر من خلال تاثيرات البيئة على حياة الفرد، او تاثيرات الفرد على البيئة التي يعيشها في داخل مجتمعه.
فلو تناولنا سيرة حياة العديد من ادبائنا وكتاب العالم ومنهم الاقليمي والعربي، لوجدنا ان هناك تاثيرات طرأت على حياتهم من تاثيرات البيئة نفسها التي عاشها في وسط مجتمع تاقلم على العادات والتقاليد وعلى الحياة الثقافية والاجتماعية التي يعتمدونها في حياتهم والتي لها خصوصية في الكسب والاكتساب، فمثلا البيئة الصحراوية تختلف عن البيئة السهلية الارض، او الجبلية، فلكل منهم خصوصية تحددها البيئة وعلى ضوء تكييف الانسان نفسه وبموجبها وتشمل العادات والتقاليد، وحتى تدخل في تصميم الازياء اضافة الى الحياة الاقتصادية والثقافية، والسلوكيات التي تتاثر والتي وبموجب مايحيط بهم من التاثيرات الخارجية والتي يكتسبونها من البيئة التي يعيشون فيها، وحتما ستؤثر ايضا على اللغة ولهجاتها وكل منها وبموجب البيئة التي يعيشها الفرد ومنها تحدد هويته الفردية من الحالة النفسية والاجتماعية والثقافية وهذا بالطبع يعتمد على مدى تاثير البيئة على الفرد منها وكما ذكرنا انفا نشأته وثقافته ومنها يتم تحديد علاقته مع المجتمع، وتحديد هويته الثقافية والسياسية وبعد امتداد جسور هذه العلاقة من خلال لغة مشتركة يجدها عند بعض الافراد والذين يتفق معهم من حيث الاراء والافكار والميول الثقافية والسياسية، ومن هنا يبدأ الانصهار الغير المباشر مابينهما (كما يحدث عند المهاجرين في المهجر)، ومن ثم تبدأ عملية التاثير من حيث التغيير والتطوير وتاثيرهم على البيئة والمجتمع من خلال نتائج لمستجدات التغيير في داخل المجتمع وتكييف هذه المستجدات وعلى ضوء الحياة الاجتماعية والبيئية التي يعيشونها، وبالطبع تشمل الحياة الاقتصادية والثقافية والسياسية، وحتى المناخ لهذه البيئة التي يعيش في داخلها الفرد لها تاثير على تحديد هوية الفرد الثقافية والحياتية وكذالك على جميع المفاصل الحياتية والاجتماعية التي يعيشها الانسان .
مكسيم غوركي
قبل ان ندخل في تفاصيل حياته وتناول تاثيراته على الحياة الاجتماعية التي عاشها بين احضانها وعلى الحياة السياسية التي تاثر بها واثر من خلالها على المجتمع الروسي ، احب ان اذكركم بانني حينما تناولت تعريف البيئة وعلاقتها مع الحياة الاجتماعية للفرد وتاثيراتها عليه ، انما هناك العديد من التعاريف والتي لو تطرقنا لها فستبعدنا عن موضوعنا الرئيسي الا وهو ( تاثير الفنان على البيئة --) وعليه سادخل الى الموضوع الرئيسي لهذا المقال متناولا فيه تاثيرات الفنان على البيئة وتاثيرات البيئة على الفنان والذي سابتدىء فيه بالكاتب والاديب الروسي مكسيم غوركي.
من هو مكسيم غوركي؟
بيئته ونشأته، حياته الاجتماعية والسياسية والفكرية علاقاته الاجتماعية وتاثيرات البيئة على نشاته وتاثيراته على محيطه ومجتمعه الروسي والعالمي. هو اليكسي مكسيموفيتش بيشكوف، هذا هو اسمه وانما شهرته في روسيا وعالميا ب مكسيم غوركي والذي ولد في عام 1868- 1936 ، لقد نشأ هذا الكاتب يتيم الابوين (الاب والام) وعمره لم يتجاوز التاسعة من عمره انذاك، وهكذا بقي هذا الصبي الذي لا يعرف شيئا عن الحياة بقدر ما وجد نفسه بين عالم فيه من المسؤولية والالتزامات الانسانية والاجتماعية، لقد وجد نفسه وحيدا في مجتمع متنوع بثقافته وميوله السياسية باستثناء رعاية جدته له واشرافها على تربيته، هذه الجدة كانت ثقافتها محدودة لا تتعدى عن ثقافة متوسطة متاثرة بالحكايات والاساطير التي كانت تسمعها من ذويها في صباها ، كانت هذه الجدة تمتاز بسعة الخيال وابداع في كيفية سرد مثل هذه الحكايات والقصص على حفيدها بحيث نمت لديه مقومات عنصر الخيال والتخيل ومن خلال مايسمعه من جدته ، كانت هذه الجدة الطيبة القلب تتمتع باسلوب سردي شيق في سرد هذه القصص وتشد من خلال هذا السرد الممتع الصبي اليافع والذي عشق ماكانت جدته تسرد عليه من هذه الحكايات مما ادى هذا الى صقل موهبته الذهنية والفكرية والثقافية، والتي عملت على نمو وصقل مواهبه القصصية، (نلاحظ هنا تاثير البيئة الاجتماعية على بداية توجه حياته وتاثيراتها على ماسيرسمه لحياته من ملكة ثقافية وادبية). وبعد هذه المعايشة الحياتية مع جدته، حالها حال العديد من الذين ودعوا الحياة ورحلوا عنها وبرحيلها تركت فراغا شاسعا في حياة مكسيم مما جعله يفكر بالانتحار ويقدم عليه ، ولكن تاثيرات الاقارب والاصدقاء اثنته عن الاقدام عن هذا العمل الانتحاري، بحيث اخذ يشق طريقه في هذه الحياة ويتاثر بما فيها من عادات وتقاليد، اضافة الى تاثره بالحياة الاجتماعية التي عاشها وحيدا ومعتمدا على نفسه، لقد عاش مكسيم بعد رحيل جدته فترة اكتسب من خلالها تجربة لحياته واعطته انطباعا استنتجه من خلال هذه المعايشة والتي كان لها تاثيرعلى ادبه فيما بعد.
غوركي
هذا الانسان الذي لقب سيرته الادبية ب غوركي، وهذه الكلمة لها معنى خاصا في حياته لتاثره بخصوصية هذا المعنى (غوركي) والتي تعني المر، لاتسام حياته بمرارة الحياة ومذاقها العلقمي في كيفية تطور مسيرتها وتاثيراتها عليه وعلى ادبه وتاثيرات المجتمع وافراده على ثقافته وعلى سلوكيته في الحياة. لقد اشتق هذه الكلمة من الوضع السياسي المر والاجتماعي الذي كان يعيشه الشعب الروسي في عهد القيصر، لقد عاش غوركي حياة الفقر والجوع والتي اذاقته مرارة الحرمان، ولهذا انعكس هذا الواقع الاليم ومعانته على مسيرة حياته الادبية والتي تجسدت في معظم رواياته وقصصه الادبية.
غوركي ولينين
لقد تاثر غوركي بالواقع السياسي والذي انعكس على مسار حياته الادبية والسياسية، ولا سيما بعد مصاحبته للمفكر السياسي لينين متخذا اياه صديقا له، هذه الصداقة الحميمة مابينهما اثرت على سلوكيته وثقافته وادبه وفلسفته في الحياة السياسية والتي فيما بعد اثرت على معظم انتاجاته الادبية متجليا هذا التاثير في روايته (الام).
الام، هذه الرواية هي خلاصة تاثيراته السياسية وتحولاته الثقافية وميوله السياسية خلال تناوله موضوع ثورة البلاشفه، لقد نسج هذه الرواية باحداثها الواقعية، وتجسيد مضامينها الفكرية والوطنية من خلال اسلوب شيق، داعيا من خلالها الى تحقيق نظام اشتراكي ، حيث توحدت القوى العاملة في صف واحد لتغيير النظام البرجوازي الى نظام اشتراكي مجردين البرجوازيين من جميع ممتلكاتهم والتي اكتسبوها من جهد العمال وباساليب غير شرعية وغير عادلة. كانت الطبقة البرجوازية انذاك مسيطرة على قيادة نظام الحكم محاولة تشريع الانظمة والقوانين لصالحها مما خلق اجواءا تعسفية ومجحفة بحق الطبفة العاملة، هذا الواقع كان له تاثيرا على مسار حياة مكسيم الادبية بحيث تمخظت هذه التاثيرات عن رواية الام، هذه الام التي انفردت بكفاحها ونضالها وهي لم تتجاوز من العمر الاربعين سنة، كرست حياتها لمساندة قضية ولدها الذي كان يحمل افكارا مناهضة للواقع الطبقي (البرجوازية) وافكارها الاحتكارية لجهود الطبقة العامله، انحياز ولدها لهذه الافكار والميول السياسية الى جانب الطبقة العاملة اثرت في حياة هذه الام بعدما علمت بان افكار ولدها هي افكارا مستمدة من الواقع الذي يعيشون معاناته والذي جاء مساندا لافكار جميع العمال انذاك، ولهذا عملت الام على مساندة الطبقة العاملة بقضيتها، حيث ساعدت على نشر الافكار النضالية والوطنية لهذه الطبقة واعتبرتها قضيتها الاساسية في حياتها وسلوكياتها (تاثير البيئة والمجتمع على سلوكية الفرد).
بحيث اصبحت هذه الام نموذجا للعنصر النسوي واللائي وقفن وقفة حازمة مع الطبقة العاملة لمجابهة البرجوازية الذين اجحفوا بحقوق العمال من خلال سيطرتهم على وسائل الانتاج وانتزاع محاصيل ماينتجه العمال في المصانع والمزارع لمصلحة الطبقة البرجوازية. ومن هنا جائت هذه التاثيرات البيئية والاجتماعية والفكرية والسياسية لتغير وتؤثر في الوقت نفسه على العديد من الادباء والفنانين ( فكريا وثقافيا وفلسفيا ) انما هذه التاثيرات بقيت مرحلية وتتغير بموجب التغييرات التي تطرأ على حياته وعلى ضوء تغييرات المحيط والبيئة.