لقد تغيرت افكار العديد من الادباء والفنانين وفلسفتهم في الحياة نتيجة لتاثيرات الانظمة والطبقات على افكارهم وبموجب مقتضيات مصالحهم الخاصة والعامة، وقلما نجد من بقي على ايمانه بعقيدته وانتمائيته ولم يتغير وبموجب تاثيرات المحيط والبيئة، ولهذا بقيت افكاره ومبادئه ثابتة وبموجب قناعته، وعلى ضوء استنتاجات احاسيسه ومشاعره، و ردود افعاله وبما املته هذه القناعة من استنتاجات جعلته يؤمن بها على انها هي الحقيقة والتي يجب ان يتغير الى الافضل وبموجب تغييرات البيئة والمجتمع وبحجم تاثيراتها عليه.
اما غوركي فقد تاثرت افكاره وبموجب المراحل التي عاشها، بحيث كانت لكل مرحلة خصوصية التاثير متغيرة عن المراحل السابقة له، اي ليست ثابته ،وانما بموجب تاثيرات الواقع المعاصر الذي كان يعيشه، لانه هكذا عاش غوركي متاثرا باصدقائه وبافكارهم ومنحازا الى معتقداتهم وميولهم السياسية، وبموجب قناعاته التي اثرت على حياته وافكاره وفلسفته التي يؤمن بها والتي تاثرت بمستجدات التغييرات المرحلية والتي شملت من تاثيرات الطبقة العاملة على افكاره وعلى ميوله السياسية بحيث جعلته ينفر من الطبقة البرجوازية ويقف بالضد منهم ومطالبا بتحسين الواقع الاقتصادي لواقع العمال ومدافعا عن طموحاتهم في الحقوق والواجبات.
لقد كان غوركي همزة وصل مابينه وبين بعض الشخصيات السياسية من المفكرين الروس والذين استخدموه ومن خلال علاقتهم به لاستقطاب جميع الادباء والمفكرين الروس لينالوا دعمهم، ولهذا دافع عن سياسة ستالين واخذ بتنفيذ مايراه مناسبا للحفاض على هذه العلاقة
مابينه ومابين ستالين، مما دعاه على عقد عدة اجتماعات في داره وباشراف صديقه ستالين مع معظم الكتاب والادباء الروس، بحيث اعطوهم اهتماما معنويا وادبيا بانتاجاتهم الادبية والفنية والغاية من هذا كسب رضاهم لينالوا منهم الدعم الاعلامي.
وقد ساعدت الرقابة في حينها على دعم الادباء والمفكرين من اجل تاطير انتاجاتهم وحصرها لمصلحة النظام الاستاليني وهذا ماتمخظ عن اجتهادات البعض مما كانت لديه مصلحة ذاتية لينفذوا مثل هذه الرقابة على زملائهم من الادباء والكتاب غايتهم من هذا محاصرتهم فكريا وادبيا وتاطير انتاجاتهم لمصلحة النظام الاستاليني، وابرزهم في هذا المجال هو تروتسكي والذي حارب جميع التكتلات الادبية والفنية والتي كان يعقدها معظم الكتاب من الادباء والشعراء والفنانين.
لقد تاثر غوركي بمحيطه السياسي والطبقي بحيث فرض عليه هذا الواقع ان يبحث عن مستجدات ماكان يسفر عن اجتماعات هؤلاء الكتاب والادباء وينقلها الى السلطة وبشكل رقيب غايته ان يضغط على الادباء من الكتاب والمثقفين لاعتناق نظريته (الواقعية الاشتراكية) والتي كان يؤمن بها كل الايمان.
وهكذا بدات تاثيرات الظروف المحيطة ب غوركي وتاثيرات المرحلة الجديدة والتي عاصرها ان تؤثر عليه بحيث غيرت من افكاره وميوله السياسية .
ولهذا تؤكد بعض المصادر الموثوقة بأن للبيئة ونمطها التي يعيش فيها الفنان لها تاثيراتها عليه وبامكانها ان تحدد هويته من حيث السلوك والثقافة الاجتماعية التي يستمدها من المجتمع الذي تحدد طبائعه وثقافته وعلى ضوء معايشته لها، فمنذ العصور القديمة تؤكد لنا المصادر التاريخية ان الانسان متاثرا بالبيئة، وان الطبيعة التي احتضنته كانت تشهد العديد من المشاهد الفنية الفطرية من رسومات متنوعة على جدران الكهوف، وكذالك تحديد بعض التظاريس الارضية بفعل ماتفعله الامطار وسيولها على ارض الواقع ونحتها بنحوت طبيعية تجلب انتباه الانسان، وكذالك فعل هذه الامطار والعواصف على الاشجار وتاثيراتها على اشكالها الاصلية لتنحت فيها ردود افعال هذه المؤثرات الطقسية مؤثرة بالانسان لتكسبه رؤية جديدة في محاكاتها بابداعات ماتصنعه انامله من اضافات وابتكارات ابداعية وعلى ضوء مايلهمه الواقع الاجتماعي لتحدد هويته وعلى ضوء العادات والتقاليد، اضافة الى اللغات ولهجاتها المختلفة، حيث ان هذه الاستنتاجات ماهي الا من تاثيرات البيئة على الانسان في تحديد هويته الفنية.
ولكن قد يتبادر الى ذهننا اسئلة عديدة ومنها:
هل للفنان تاثير على البيئة التي يعيش فيها؟؟
والجواب ياتي من عدة جوانب تعتمد على طبيعة البيئة التي يعيشها الانسان، فنحن نعلم ان اختلاف البيئات منها الجبلية والصحراوية والسهلية، اضافة الى المدن والقرى والارياف، فكل من هذه لها خصوصيتها البيئية من حيث الحياة الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والتي تشمل على العادات والتقاليد، وبما الانسان يملك من الخيال والتخيل يختلف عن بقية الافراد.
وكل استنتاجات الخيال تتبع اجتهادات المفكر ومدى ابداعاته التي يبتكرها من اجل التغيير والتطوير في العديد من المعالم البيئية التي يعيش فيها الانسان.
وبالطبع هذا ينبع من متطلبات الحياة التي يعيشها الانسان ورغبته في تغيير بعض المعالم العمرانية باضافة عليها لمسات فنية وتصاميم ذات ابداعات جمالية مما تضيف على البيئة جمالا يختلف عما كانت عليه في السابق، وكذالك قد يشمل التغيير والتطوير تصاميم الازياء وتطويرالقديم منها على ضوء التجديد والتكييف الذي يخدم الانسان وعلى ضوء البيئة والتضاريس الارضية التي يعيش فيها الانسان، اضافة الى تاثيرات ماهو موجود في الطبيعة على الانسان، مما تدفعه بالتغيير والتطوير من اجل تكييف الجديد الحديث رغبة من الفنان لخدمة الفرد والمجتمع من هذا التغيير، وهذا يعود الى احاسيس الانسان وانطلاقه في عالم الخيال الجمالي كي يسخره لخدمة الانسان.
ونحن في هذا لا يمكننا فصل الفن عن احاسيس الانسان ومتطلباته الحياتية التي يعيشها، فالفنان له رؤية تنبثق من تاثيرات الماضي من العصور القديمة ومافيها من خلال تكويناتها سواء كانت من هيكلية التضاريس الارضية والبيئية او من خلال تدخل الانسان في هذا التغيير بحيث تجعل الفنان المعاصر ان يعيش في اجواء التاريخ وان يتاثر به متفاعلا مع ذالك التاريخ الفني والحياتي ليخلق اجواءا معاصرة باشكال فنية جديدة يستوحيها من رؤية خياله للمرحلة التي يعيشها والتي يستنتجها من تاثيرات الماضي على رؤيته المعاصرة .
فاذا ماحاولنا البحث في اشكال الفنون وتاثيراتها البيئية عليها وتاثيرها على البيئة لشاهدنا بان هذه التاثيرات تختلف باختلاف رؤية كل من الفنان التشكيلي والمسرحي والكتاب والادباء والمثقفين منهم .
الاديب الروسي تولستوي
من خلال البحث في سيرة الاديب الروسي تولستوي يتاكد لنا بان هذا الاديب استطاع ان يؤثر في مسار الحياة الثقافية والسياسية في المجتمع الروسي، ولم يخضع لتاثيرات المحيط من الكتاب ولا متاثرا بافكار السياسيين وفلسفتهم وممارساتهم السياسية في الحياة الواقعية، وانما بالعكس، استطاع هذا الاديب ان يمثل مكانة متميزة عند الذين يتابعون انتاجاته الادبية والتي يطغي عليها دعوته للاصلاح والسلام، داعيا الى الثورة السلمية.
اضافة الى انه لا يحب العنف، بحيث تضمنت رواياته تلك الاحاسيس والمشاعر الانسانية والتي جسدها في معظم رواياته الادبية .
هذا الروائي وبالرغم من انه انحدر من عائلة روسية نبيلة ، حيث كانت والدته اميرة تنحدر من سلالة عريقة لاول حاكم ذكره التاريخ الروسي.
لقد حاول تولستوي تلقي تعليمه وان يكتسب ثقافته بدراسة انواع اللغات منها الالمانية والشرقية والعربية والتركية، هذا الروائي والاديب الروسي الذي رفض ان يتاثر باي فكر باستثناء ما تمخضت تاثيراته عن رؤية مستقلة بذاته بقدر ماكان متعلقا بنشر الثقافة السلمية والبعيدة عن الصراعات والنزاعات الصدامية من اجل انتزاع الاهداف التي كان يؤمن بها، فهو كان يؤمن بمعارضته للقوة وللعنف.
فبعد ان ترك عائلته الثرية ولم يتاثر باجوائها ولا باجواء البرجزة وطبقة الاغنياء بقدر ما كان يفضل ان يعيش بمزرعته حياة بسيطة بعيد عن البذخ والبرجزة وعن طبقة الاغنياء الى ان وافته المنية عن عمر 82 عاما تاركا خلفه ادبا من التاثير الفكري والفلسفي لحياته التي عاشها، مجسدا افكاره هذه في انتاجاته الادبية والتي توجها في روايته الشهيرة (الحرب والسلام) .
من هنا ومن هذا الشرح الوجيز يمكننا استنتاج عن كيفية تاثير الفنان بالبيئة وتاثير البيئة بالفنان، فهي حالة نسبية تتبع ظروف الفنان وبيئته.
وهنا يجب ان نعلم بان هذه التاثيرات ايضا هي حالة نسبية تختلف مابين فنان واخر، وكل منهما وبموجب رؤياه ومدى تاثيرات كل من البيئة عليهما.