حينما يبحث الانسان في عالم كتاب الدراما وبانواعها (السمعية والمرئية) ويطلع على ماتطرحه من الافكار ان كانت مستنبطة من الحياة وعن تجربة ان كانت ثقافية مكتسبة، ام انها معانات يصبها الكاتب في مظمون فكري تتجسد افكاره من خلال الاحداث والشخوص ومقومات العناصر الاخراجية، او انها فكرة بمضنون انساني وفلسفي يشتق احداثه من الواقع الذي يعيشه مجسدا فكرته ضمن قالب واطار فني قد يزيده جمالا في التعبير والتجسيد.
وعالم كتاب الدراما ان كانوا من المسرح العالمي او المسرح العربي ماهم بالحقيقة الا عالم مبني على التنافس الشريف غايتهم من هذا التنافس التغيير والتطوير وبشكل مبدع يزيد من عناصر التشويق ان كانت في الرواية او عن طريق الانتاجات السمعية والمرئية.
هؤلاء الكتاب يصيغون معاناتهم وجم افكارهم دون النظر الى انها ستكون مقبولة او مرفوضة من قبل المتلقي، المهم في هذا هم يكتبون بما يؤمنون به مجسدين افكارهم وعن طريق كتابة الدراما والتي هي حصيلة هذه المعانات والافكار التي تنبع من عمق ذاتهم مجسدة لمشاعرهم واحاسيسهم ورؤيتهم الذاتية.
وهذا هو الحال مع جميع الادباء من المثقفين وعلى مختلف العصور ، كانوا ينفردون بافكارهم ويجسدونها في كتاباتهم ، ولم يكن في تفكيرهم اية حسابات انتمائية الى اي مذهب او مدرسة من المدارس الادبية والثقافية ، انما من جاء من بعدهم او حتي في عصرهم هم الذين صنفوهم ونسبوهم وبموجب اجتهاداتهم وتحليلاتهم الى المدارس المسرحية منها الرمزية والتعبيرية والتعليمية والتعبوية-- الخ .
فكذا الحال كان مع وليم شكسبير ، ومع مولير، وابسن وتشيخوف وبيكت ، ومنهم اوجست ستريندبيرغ.
اذن من هو ستريندبيرغ؟
لقد ولد هذا الكاتب المبدع في 22- كانون الثاني من عام 1849م حيث عاش حياته محروما ومحتاجا وبالرغم من انه كان من اسرة ميسورة الحال ووالده كان يعمل موظفا يتقاضى راتبا جيدا والذي كان متزوجا من مدبرة منزله.
فبعد ان فقد اوكست والدته ضعفت علاقته بوالده، ونشب خلاف اسروي بينهما مما ادى به الى ترك والده ولم يلتقي به ابدا ، حيث انه في عام 1876 استقل عن اسرته وعاش حياتا مليئة بالمعاناة والهموم الذاتية، فبعد تخرجه من الثانوية عين مدرسا ومارس مهنة التعليم الا ان طموحه كان ابعد من هذه الوظيفة الروتينية مما دفعته رغبته لدراسة الطب، لقد عاش حياته متاثرا بالمسرح والتمثيل وقد فشلت محاولته في ان يكون ممثلا الا ان الفرصة لم تكن من صالحه، فقرر اكمال دراسته الجامعية ولكونه كان عدائيا لاساتذته ومنتقدا لسلوكياتهم في الدراسة لم يتمكن من مواصلة الدراسة الجامعية.
ولهذا علينا ان نتعرف على ثقافته وعن تاثيرات الادب على مسار حياته الثقافية عندها سنتوصل الى الحياة التي عاشها كاتبنا اوكست السويدي الولادة من ان حياته كانت حافلة وزاخرة بابداعاته في الكتابة، كانت روحية التنافس مابينه وبين العديد من كتاب الدراما، هذه الروحية خلقت منه كاتبا مبدعا غزيرا في مؤلفاته فقد عاش مع معاصريه من كتاب الدراما وهو في اوج ابداعاته الكتابية حيث كان نموذجا ممتازا لحركة المسرح الحديث في مطلع القرن العشرين حيث تميزت كتاباته بالتحديث والتطوير في الاسلوب والطرح، فقد تناول المسرحية المعاصرة والمسرحية التاريخية والكلاسيكية والطبيعية والشاعرية، حيث انه كان يحاول ان يستحدث التغيير في كتاباته ويميزها عن اقرانه ممن عاصروه.
مسرحيـة الاب
لقد كتب هذه المسرحية والتي ابهرت الصحافة السويدية والعالمية لما فيها من التحليل النفسي ورسم ابعاد الشخصيتين الرئيسيتين وهما الاب والزوجة والتي كانت ضحيتهما ابنتهما المتبناة من دار الايتام ، وللعلم ان هذه المسرحية اختيرت للعمل عليها من قبل الاستاذ المرحوم المخرج بهنام ميخائيل لطلبة معهد الفنون الجميلة في بغداد – الكسرة وكنت انا احد العاملين بها بصفة مديرا للمسرح الا انها لاسباب ادارية في المعهد لم ترى النور ، ولكن قد قام باخراجها بعدئذ المخرج الراحل المرحوم عوني كرومي وقد ابدع في فيها حيث مثل فيها ايضا الدور الرئيسي (الاب) وقد عرضت على مسرح نادي السنتر في العلوية، وقد نالت عروضها على اعجاب العديد من المهتمين في المسرح من طلبة المعهد والاكاديمية والاساتذة المختصين اضافة الى الصحفيين ممن لديهم اهتمامات مسرحية واخص منهم النقاد الاكاديميين.
ان مسرحية الاب للكاتب اوكست سترندبيرغ كانت تجسد عدم التكافىء الثقافي والجنسي بين الزوج (الاب) والزوجة، اي بين الرجل والمراة، وقد جسدت ايضا صراع احداث للمشاهد بصورة محبوكة وبنسيج فيه من المضمون و الفكرة التي عكست معاناة الاب من زوجته ومن علاقتها السلبية معه بحيث ادت به الى الجنون من خلال مكيدة دبرتها زوجته مستغلة ضعفه الجنسي وبالتعاون مع طبيب العائلة الذي اشترك في هذه المكيدة بتزويد الزوجة تقريرا طبيا يشرح فيه عن حالته النفسية مؤيدا من خلاله الاختلال العقلي للاب، والذي ادى به الحال الى المستشفى في قسم المصح العقلي. كان اوكست يؤمن بان هناك قوتين متصارعتين عند الانسان، اولهما صراع مع الجسد، وصراع مع الروح ، وهذا ماطرحه اوكست في مسرحية الاب ، حيث ان شخصية الاب في المسرحية قد اصابها العجز الجنسي ، وهذا العجز فجر صراع لدى الزوجة لكونها تبحث عن ملاذها الجنسي من الرجل الا انها لا تجده فهنا يجسد الكاتب السويدي صراع الجسد من اجل الاستمتاع واللذة الجنسية، بينما في المقابل ، اي عند شخصية الاب فلكونه كان عاجزا جنسيا فقد بحث عن البديل اي عن الصراع الروحي والذي احب ان يكون بديلا للصراع الجسدي بسبب عجزه ، وهكذا فشل صراعه مع الجسد، وكانت الغلبة لزوجته وانتصار قوتها عليه، وبحجج واهية مثل حبها في انجاب الاطفال بينما هو عاجز عن تحقيق حلمها في الانجاب بسبب عجزه الجنسي مما اظطر ان يقترح عليها بتبني طفلة من دار الايتام لحل مشكلتهما، وهكذا يسعيان الى تحقيق حلمهما بهذا التبني، انما تبقى المشكلة الرئيسية عند الزوجة وغريزتها الجنسية والتي لا يروي ظمئها الا مشاركة الرجل لها في عالم تحلم به وتحقق من خلاله اشباع ظمئها الجنسي والذي لا تجده عند زوجها العاجز، وتكبر المشكلة والتي تفضي الى النزاع اليومي مما يؤثر على الحالة النفسية للابنة المتبناة والتي تكتشف انها ابنة متبناة وذالك في ساعة غضب الزوجة والتي تكشف هذا السر والذي كان مكتوما عنها طوال هذه السنين-- هنا تولد عقدة جديدة في الخط العام لنمو احداث المسرحية وينشأ صراع ذاتي عند الابنة وهي تبحث عن والديها الحقيقيين بتسائلات تجيب عليها مربيتها لتعلن على انها ابنتها الحقيقية وهي والدتها وبموجب المستمسكات الرسمية والتي تملكها من شهادة الميلاد والمصدقة من دار الايتام، وانها احبت ان تشتغل مدبرة هذا المنزل حرصا منها على ان تبقى بجانب ابنتها، وهنا يتنامى الصراع الثانوي اضافة الى الصراع الاصلي مابين شخصية الزوج والزوجة وتتوالى الاحداث وتبقى الابنة تعيش مع صدمتها والتي اصعقتها لكونها كانت تحب والدها الذي تبناها حبا شديدا، انما الان اكتشفت حقيقة امرها وهكذا تتيه بين صراعات والديها بالتبني وخلافهما الاسروي والتي كانت ضحيتهما ،واخيرا ينتهي الحال بالزوج الاب الى المصح العقلي لتاييد طبيب العائلة بتقرير طبي انه معاق عقليا ، والزوجة تستحوذ على املاكه بعد ان تصاب في حالة من الانهيار والهستيريا وتخسر نفسها واسرتها، اما الابنة فتنسلخ عن هذه الاسرة لتلحق بوالدتها الحقيقية لتبني لها عالما سعيدا مستقرا لحياتها، واما الاب ففضل حالة الجنون وفي مصح المجانين اسعد من ان يكون عاقلا وفي مجتمع يسوده الدجل والنفاق والنصب والاحتيال والغدر والخياتة ،بعدما اثقلت الحياة المادية كاهله وزادت من تعقيدات حياته الاسروية كونها حياة مبنية على المصالح والعلاقات الغير المتكافئة في الحياة الاسروية، وهذا مااراد توصيله اوكست سترندبيرج من نصه المسرحي للمتلقي.
لقد ابدع اوكست سترندبيرج ( 1849 – 1912) في جميع نصوصه ونال اعجاب العديد من النقاد والجماهير من مشاهدي اعماله ، لقد جسد حالته النفسية المتضعضعه ، ورؤيته للاسرة الضعيفة حينما يكون اسباب ضعفها هي المراة التي تحاول بناء علاقة اسروية تعيش حالة الانا ، الانانية التي اتصفت بها الزوجة التي جسدها اوكست في مسرحية الاب، هذا الكاتب العبقري قد بحث في سمات العلاقة المزدوجة في الاسرة واختيار العلاقة الاجتماعية من خلال سياسة مثالية اتخذها في حياته، وقد عانى مابين عدم توازن كفتي ميزان القرار الاسروي ومابين اتخاذ التدابير الاسروية ومن خلال تسلط الزوجة والتي اضعفت من قراراته ولربما كان السبب هو الفشل في علاقته الروحية في تعامله مع الزوجة والتي كانت احوج الى العلاقة الجسدية لعطشها الجنسي، ولهذا كانت هذه المسرحية مثالا رائعا في الطرح وتسليط الضوء على اهم مشاكل الحياة الاسروية والتي تدور رحاها في جميع العصور والازمنة مما كانت كتاباته محط اعجاب المثقفين والمخرجين ليعملوا على اخراجها من عصره وحتى يومنا هذا.
كان اوكست يجسد ابداعاته ومن خلال العديد من المواهب التي يملكها، كان شاعرا ورساما وكاتبا بارعا وجادا في كتاباته، يشتق افكاره من معاناته الذاتية ولا سيما حالته النفسية والتي كان لها التاثير على معظم كتاباته، هذه الحالة التي ادت به الى فشل العلاقة الزوجية الاسروية، ولهذا كانت جميع اعماله ناجحة باستثناء بعض النصوص والتي فيها من الحملة التعبوية والتوعية للجماهير ضد نظام الحكم في السويد مما اجبرت السلطات على ملاحقته وتضييق الخناق عليه مما اضطر الى هروبه الى خارج البلاد ليعيش في المنفى متنقلا بين اوربا ، حيث اصابه نوعا من الهوس والقلق والاظطرابات النفسية الغير المستقرة والتي ادت به الى فشل زواجه المتكرر.
سبق وان تناولت في مقال سابق موضوعا مفاده (هل البيئة تؤثر في الفنان؟ ام الفنان يؤثر في البيئة؟) والذي يتابع سيرة وحياة سترندبيرج ليجدها انها متاثرة من البيئة التي عاشها واثرت فيه، وان كتاباته متطابقة لواقع عاشه وتاثر به، حيث انه يعكس سلوكه الحياتي والنفسي ويجسد انطباعاته عن الواقع الذي يعيشه، اضافة الى تمخضات ابداعات افكاره وارائه المتحررة من العادات والتقاليد البالية التي ورثها عن المجتمع الذي عاش في كنفه، هذا الكاتب البارع والمبدع والذي عادى نظام بلاده السياسي وهجاه في روايته ( الغرفة الحمراء ) والتي نشرت عام 1879 جعلته من ابرع الادباء في الهجاء وكانت سبب نجاحات كتاباته مما شجعه هذا النجاح على ان يهجو في معظم كتاباته وادبياته السلطة الحكومية في السويد مما شجعه هذا النجاح على كتابة (المملكة الجديدة) والتي اجبرته على مغادرة السويد ليعيش منفاه وهو متالما من الاوضاع الرديئة في السويد، حيث انه تاثر بالحياة الاقتصادية والسياسية وهذا التاثير تجسد من خلال هجائه على النظام الحاكم في مما جعل معادات النظام السياسي السويدي مستمرا لملاحقته وبتعليمات قسرية حظرت عليه دخول موطنه الاصلي، جميع هذه التاثيرات انتقلت الى حياته الذاتية وانعكست على علاقته الزوجية مما اظطر الى طلاق زوجته ولا سيما بعد تنشيط حركة النساء واللاتي اصبحن سخرية في كتاباته وناقدا لتحركاتهن والتي كان يعتبرها نوعا من التحدي الغير المشروع لسيادة الرجال ومنهم هو. لعدم ارتياحه النفسي واستقرار حياته اظطر الى الانتقال الى برلين بعد طلاقه من زوجته الاولى في عام 1891 وزواجه الثاني من احدى الصحفيات والذي لم يدوم طويلا حيث بعد هذا الطلاق انتقل الى باريس ، وفي باريس اصابته وعكة صحية مما ادى به الحال الى الهلوسة وشيئا من الكابة، لقد اتجه الى البحث في العلوم والاهتمام بعلوم الطبيعة والكيمياء.
الا ان هذه الحالات الغير المستقرة اجهدته مما جعلته ان يهدىء من مضامين كتاباته ويتجه الى التعبير السلمي، ومسايرة الاوضاع رغبة منه في الاستقرار النفسي والابتعاد عن الاجهاد العصبي والنفسي مما اظطرته الظروف القاسية للعودة الى موطنه السويد، بعد ان مهد في مقالات صحفية اعلن من خلالها عن اعتدال احكامه وقراراته باتجاه الاوضاع السياسية الراهنة في السويد ، فاعتبر من وجهة نظر الحكومة السويدية مواطنا صالحا الا انه لم يعدل عن كتاباته الساخرة من بعض الامور والتي كانت لا ترتقي الى مستوى احترام الانسان وحريته في الحياة.
لقد عاش هذا الكاتب بعد ان خلف ارثا ثقافيا من الروايات والمسرحيات والمقالات الصحفية والقصص القصيرة حيث ختم حياته بعد ان توفي بمرض السرطان والذي داهم معدته.
لقد شيع جثمان الكاتب العبقري اوكست ستريندبيرج من قبل الجماهير والمعجبين من المثقفين والصحفيين وحتى من النقاد والذين واصلوا انتقاد اعماله سلبيا وسخروا منها، وكذالك شاركت الحكومة السويدية بتشييع جثمانه واعتبرته معلما من معالم الحضارة ورمزا من رموز الثقافة في السويد، حيث رحل الى العالم الاخر بعد ان خلف له ولموطنه السويد ارثا ثقافيا.
الختـام
لقد كان اوكست يعيش حالة من القهر والمعاناة من العنصر النسوي، اي انه كانت لديه نظرة دونية ومعادات للمراة، وعلى الرغم من انه نفى بنفسه هذه الحالة الا ان كتاباته كشفت عن هذا العداء ، وقد دافع عن كتاباته وارائه قائلا: ان من حقي ان انتقد واسخر من سلوكيات بعض النماذج الغير الطبيعية من افكار وعقليات بعض النسوة الضعيفة واللاتي لا يرتقين الى مرحلة الرقي والثقافة في سلوكياتهن وطبائعهن ، وقد اثارت هذه المعادات للنساء لدى العديد من المهتمين بكتاباته ومتسائلين عن اسباب هذه المعادات، هل ان اسبابها قصورا جنسيا او ان لديه غيرة من ادعائات معظم النسوة بالمظاهر القشرية والبعيدة كل البعد عن القيم الاخلاقية والانسانية، الا انهم لم يتوصل معظمهم من الباحثين والمتسائلين الى اجابات ما ترضي فضولهم وتسائلاتهم عن حالته هذه والتي جسدت هذه المواقف في معظم كتاباتنه وانتاجاته الادبية الروائية والمسرحية وفي معظم قصصه القصيرة-- حيث بقي هذا السر مدفونا مع رحيل المبدع اوكست سترندبيرغ.