كثيرا ما نقرأ في مطالعاتنا الادبية والثقافية عن بعض الادباء ومحبتهم بالانفراد مع الطبيعة الساحرة والجميلة والانشراح النفسي بمباهج الوانها والاستماع الى زقزقة العصافير وتغريد انواع البلابل وهي تطير وتحط فوق غصن واخر-- هذا الخلاء الذاتي مع الطبيعة وبعيد عن انظار الرقابة الاجتماعية والسلطوية يتمخظ عن حرية الفكر وعن جمال التعبيروالابداع في انتاجات ادبية وفكرية متلاحمة مع العالم الروحي ليناجي الارواح الطاهرة والمتجردة عن المادية المرتبطة بحب الذات ولا سيما الانا والتي تتاثر مع معطيات المجتمع والمليئة بالتركيبات الطبقية والمفارقات الاجتماعية والتي لكل منها عادات وتقاليد تقيد الانسان وتمنعه عن التعبير الذاتي والفكري من خلال حرية يستانس بما يتمخظ عنها قلمه بترجمة بعض الحالات من الاحاسيس الانسانية والوجدانية في وحدانية الحياة مع الطبيعة ومكوناتها الجميلة لما تحويه من الالوان الزاهية والاصوات المتناغمة والتي تترجم للنفس نكهة الحياة الجميلة.
ومن هذا حينما نقرأ عن بعض الشعراء انهم يتجهون الى الفضاء الخالي من البشر ليعيش مع تناغم الطبيعة واجوائها الخلابة، لتحس انك انسان يختلف عن هذه الطبيعة بالعقل والتفكير ولا تفرق شيئا عنها بردود الافعال من البهجة والمرح والطرب مع تمايل الاشجار لمعانقة رياح المحبة والنقاء الصافي، هذه الاجواء الجميلة والبعيدة عن قيود المجتمع وعن كلمة اللا والتي تفرضها بعض القيود الاجتماعية من العادات والتقاليد البالية والتي لا يستسيغها الاديب ولا الشعراء ولا كتاب الدراما المسرحية والتي اقحمتهم معاناتهم مع صراع ادخلهم في نفق طويل نهايته لم تكن معلومة نافذة ام مغلقة – اضافة الى الرقابة التي تفرضها بعض الانظمة الحاكمة والتي تحد من حرية التعبير والنشر وتقيد الانسان بقيود تحد من حريته الفكرية والثقافية، فمن اجل هذا يهرع الانسان الاديب المثقف ليعيش يومه مع الطبيعة وبعيدا عن كلمة (اللا) القاسية والغير المرغوبة لدى الانسان المفكر والاديب الناشط والتي يرفظ تركيبتها في اللا اسمع، واللا اتكلم، واللا انظر، يعني بالشعبي الدارج (اطرش واخرس واعمى) مثل هذه اللا وتركيباتها لا تجعل من الانسان مبدعا وتحد من انطلاق افكاره الجميلة والهادفة نحوى التغيير والتطوير، كلمة اللا قد تخفي من ورائها قوة صارمة تقع على رقاب المفكرين لتقطع رقابهم.
انما هناك من يقتحم حاجز الخوف ويعبر عن افكاره وارائه بكل جراة وشجاعة غير ابه لعواقبها الوخيمة، هذه الجراة والشجاعة فيها من صراحة الرأي والنقد وتشخيص الخلل واعطاء البدائل كمعالجة تساعد بالنهوض للبنية التحتية وتنقل المجتمع من واقع مغلوب على امره الى واقع سعيد فيه من الرفاهية والعدالة الاجتماعية، والقسم الاخر من الادباء من يجامل وعلى حساب احاسيسه ومشاعره خوفا من ملاحقته من قبل السلطات الامنية، فمثل هذا التموذج من الادباء قد ينحرف للعمالة لصالح الانظمة الحاكمة ويصبح مسيرا وغير مخيرا ولا يمكنه الابداع بنتاجاته الادبية مع انه يملك من الطاقات الابداعية المدفونة في دواخله والتي لا يمكنه من تحريرها لتنجلي للعلن وتفصح عن جمالية التعبير والمساهمة ومن خلالها في ترجمة حالة من الجمال وممارسة حريته في التعبير عن افكاره ان كانت سلبية او ايجابية.
فحب الاقتحام ياتي من ايمان الاديب بما لديه من المبادىء والعقائد الفكرية والتي يؤمن بها، وهذه ايضا لا تجسدها كتاباته ونتاجاته الادبية والفنية ان لم تكن لديه من الشجاعة في نشر ماعنده من هذه المبادىء.
ان تاثيرات المجتمع والاجواء المحيطة به تعمل على نضج افكاره وعن اختبار قوة صلابته ومواقفه المصيرية وتجعل منه صاحب القرار في اتخاذ مايراه مناسبا من التشريح والتشخيص لبعض الحالات الاجتماعية السيئة، بعكس الادباء المسلوبي الارادة والتي يخضعون لتاثيرات القيود التي تمنع ابداعاتهم واطلاق افكارهم ومبادئهم خوفا وحرصا على حياتهم وهروبا من اجراءات السلطة وقوانينها الجائرة.
فالعديد من كتاب الدراما العراقية منهم ادمون صبري ومحي الدين زنكنه وعادل كاظم وطه سالم- الخ. يعبرون في انتاجاتهم الادبية عما يؤمنون به من الافكار اليسارية العالمية ويجسدون تاثيراتها من الافكار الانسانية على افكارهم الخاصة اضافة الى معايشتهم لواقع الحياة الاجتماعية والسياسية التي يعيشونها فحصيلة هذا كله ستتوضح لديهم صورة واقع الحال والتي يجب عليهم طرحها على المجتمع من اجل ان يتفاعل معها الافراد ويتاثروا بها ومن ثم يعملون على دعمها معنويا وتاييدا لهذا الطرح الذي لامس شغاف حياتهم متطلعين الى نقطة التحول الاجتماعي والسياسي والثقافي والتي لا تحدث الا عن طريق التكاتف والاتحاد الجماهيري ومقاومة الطغيان والفساد الاداري لهذه الانظمة التي تحد من سعادة حياتهم الاجتماعية والثقافية والتاييد السياسي للافراد الذين يمثلونهم ويعملون من اجل التغيير والتطوير لسعادة هذا المجتمع.
فاذا عامل الخوف هو عامل عدو للابداع، الخوف من معاقبة النظام من انزال اقسى العقوبات الصارمة بحقهم، هذا الخوف الذي لا يدع للابداع ان ياخذ طريقه للترجمة والتجسيد وفق المنظور الجمالي للحياة الواقعية، انما لا يعني ان عجلة التطور والتغيير سوف تقف وتسلم مقاليد التحكم بيد من لا يستحق القيادة الجماهيرية من اجل اسعاد المجتمع وتحقيق الرفاهية الاجتماعية للجماهير المتطلعة الى كسر القيود والانعتاق.
محي الدين زنكنه
عذرا ان جاء سردي لمقدمة الموضوع بشكل مطول، وانما ضروريات التوصيل للاجواء التي عاشها كتابنا ضمن الحقب الزمنية الماضية، مستعرضا ايضا النماذج الذيلية منهم وكيف انهم جعلوا انفسهم ابواقا لبعض المتنفذين في السلطة.
فالموضوع الاساسي والذي احببت ان اذكره في مقالي هو تسليط الاضواء على الكاتب اليساري العراقي محي الدين زنكنه مستندا الى بعض الاراء في نقاشات طويلة مع بعض الاصدقاء، اضافة الى بعض المصادر الموثوقة والتي تذكر بالتفصيل عن حياة هذا الكاتب العراقي الكردي والذي عاش ولم يعرف للراحة وللاستقرار معنى لحياته، وهكذا عاش في ترحال مع الظروف التي ساقته الى ان يكون رحالا مابين الجنوب والوسط بغداد والشمال، هذا الكاتب النموذج الخير من بين الكتاب العراقيين كان يملك من الشجاعة في طرح افكاره ومبادئه في نتاجاته الروائية والمسرحية والقصة القصيرة، ان محي الدين زنكنه كاتب عاش حياته شمعة موقدة بافكاره وبمبادئه وايمانه بها ومن دون خوف ورهبة مما قد يلحق به من محاربة الانظمة له والتي ظلت تلاحقه وتسد عليه منافذ الانتاج الادبي لتحد من انتاجاته الثقافية، الا انها بائت جميع المحاربات بالفشل كونه كان يهرع من مكان والى مكان اخر، كان يعبش في الجنوب ومع الاهوار وهو ابن الشمال، وتارة يرحل الى الشمال موطنه الاساسي لينعم برائحة اشجار الابنوس ورائحة اشجار البلوط والجوز، ويستمتع بهدير مياه شلالاتها وخرير مياهها، كانت تاخذه فترة من النقاهة الفكرية ليحاول من عطاء جديد في نصوص مسرحية جديدة تحمل معاناة شعبه ومن دون تمييز منتقدا من خلالها الانظمة التي عاش ظلمها وجورها وافسدت عليه حرية الكتابة والتعبير عن احاسيسه ومعاناته بشك وقتي ومن ثم ينهض كنهظة الاسد ليفاجىء جماهيره ومحبيه بسمفونية جديدة من كتاباته المسرحية يصب فيها كل انتقاداته للاوضاع السائدة وينتقد الظلم والرعاية الفاسدة للانسان العراقي المغلوب على امره وبكل صراحة ومن دون خوف لكونه محبا لشعبه ويتالم لمعاناته ومتاثرا بالواقع المؤلم والذي كان يئن من جراء وطأة الظلم والقمع والفساد الاداري، ولهذا نبغت لديه فنون الكتابة وبشتى الوسائل والمذاهب المسرحية منها الرمزية والواقعية وباللغة العربية الفصحى معبرا من خلالها عن قساوة الحياة الاقتصادية ومعانات شعبه منذ ان كان في الرابعة عشر من عمره، حيث ترعرع على اافكار يسارية والتي تحمل القيم الانسانية، كان هذا الكاتب الفتي مشاركا في تظاهرة مع ابناء مدينته في كركوك ومتضامنا مع المتظاهرين في تظاهرة عارمة ضد العدوان الثلاثي على مصر في معركة بور سعيد مما ادى الى اعتقاله عام 1956.
لقد تخرج محي الدين زنكنه من كلية الاداب قسم اللغة العربية جامعة بغداد عام 1962 حيث عين مدرسا للغة العربية في الحلة اي في محافظة بابل.
لقد ولد هذا الكاتب في محافظة كركوك من عائلة متوسطة الحال ولهذا عمل في الصحافة ومن خلال اعمدة ومقالات انتقادية وساخرة اعتبرت في وقتها من افضل كتابات من عاصره ضمن تلك المرحلة من الزمن، لقوة ثقافته في اللغة العربية.
لقد تميزت كتابات زنكنه على الحس التحريضي ومنذ بواكير كتاباته الادبية لكونه كان يؤمن بان التاثيرات الفكرية لها مردودات ايجابية عن طريق توصيلها بالانتاجات الادبية التي كانت تثمر عن افكار يؤمن بها والتي يعتبرها اداة للتغيير والتطوير، لقد كان يؤمن بقدرة الانسان على الاحتفاظ بافكاره التقدمية ومع الايمان بها بالرغم من تعرضه للعوامل السلبية والتي كانت من المعوقات امام مضيه بالاتجاه الذي يؤمن به والذي يخدم الجماهير المتطلعة الى نظام تسوده العدالة الاجتماعية والتغيير الى نظام جماهيري منبثق من اعماق وضمائر المناظلين المناهظين للانظمة الطاغية-- لقد اثبت هذا الكاتب الجرىء باطروحاته ومن خلال مضمون نصوصه انه كاتب تعبوي وذو افكارمعارضة لما هو موجود في مرحلته المعاصرة انذاك، هذه الافكار المتطلعة الى التغيير السياسي الى نظام جماهيري، حيث اثبت محي الدين زنكنه ومن خلال نصوصه وايديولوجيته الفكرية اليسارية ومن جميع نصوصه المسرحية منها:
مسرحية السر عام 1975 – مسرحية الجراد عام 1970 – ومسرحية السؤال عام 1975 – ومسرحية الاجازة ومسرحية الخمس الخامس من القرن العشرين يحدث هذا ومسرحية اليمامة 1980 ومسرحية مساء السعادة ايها الزنوج البيض عام 1981 ومسرحية لمن هذه الزهور 1989 ومسرحية الاشواك ومسرحية الحارس ومسرحية العلبة الحجرية ومسرحية تكلم ياحجر ومسرحية حكاية صديقين ومسرحية الاشواك ومسرحية هل تخضر الجذور ومسرحية القطط ومسرحية موت فنان ومسرحية رؤية ملك ومسرحية اردية الموت.
لقد تناول هذا الكاتب في مسرحياته المعالجات والتي كان يراها مناسبة من اجل انقاذ الانسان وبغض النظر عن هويته، فلم يكن يهتم ببقعة جغرافية محددة للكتابة، لقد كان شموليا باطروحاته يتناول قضايا الانسان المعاصر وفي جميع انحاء العالم ابتداءا من الوطن الاقليمي والعربي والعالمي، لقد اثارت مسرحياته الشكوك لدى الانظمة الحاكمة في وقتها لمخاطر افكارها ومضمون اهدافها ولهذا كانت لكتاباته النجاح والاعجاب الجماهيري مما عرضته الى المضايقات والاستجوابات العديدة والتي جعلته يضحك ويستهزء من ضعف مواقف تلك الانظمة من كتاباته، اضافة الى كتاباته باللغة الكردية والتي ساهمت في توعية اخواننا الاكراد وتسليط الاضواء على حقوقهم الانسانية وتوعيتهم توعية انتفاضية من اجل نيل حقوقهم والعمل على النضال من اجل هذه الحقوق.
لقد تناولت المسارح العراقية والعربية معظم نصوصه المسرحية منها:
فرقة المسرح الحر في الجزائر،
فرقة المسرح الشعبي في العراق،
فرقة مسرح اليوم في العراق،
فرقة المسرح الحديث في العراق،
فرقة المسرح القومي في العراق،
فرقة مسرح الاسكندرية في الاسكندرية،
فرقة مسرح البحر في الجزائر،
اضافة الى مؤلفاته القصصية والروائية والمسرحية ترجمت الى الانكليزية والى الكردية. حيث نال هذا الكاتب العراقي عدة جوائز وشهادات تقديرية اقليميا وعربيا اعجابا بمؤلفاته لقوة مضامينها الفكرية.
تبقى ذكرى هذا الكاتب العراقي بلبلا تغريدته كانت ومازالت في جنائن الثقافة العراقية والعربية والعالمية لافكاره الانسانية التقدمية، ونموذجا حيا للكاتب الذي احتضن قضية الانسان العراقي والعربي والعالمي، لقد خسره العراق والعالم العربي والعالمي في رحيله، الا ان له الحق علينا ان نقيم له ذكرى لمهرجان ثقافي وفني يحمل اسمه لمواقفه الادبية والثقافية مع الانسان-- مع قضية الجماهير اينما كانت.