هنا اذاعة بغداد 82 سنة
عالم من السحر والجمال -- وفصاحة مفردات الكلام
توضيح واعتذار
الى اسرتي الاعلامية من منتسبي اذاعتي بغداد وصوت الجماهير وفضائية اشور ان ماكتبته في هذا المنشور لا يعني انني قد تناسيت وعن عمد ذكر بعض الزميلات والزملاء من الرواد ومن المعاصرين، انما مرور 15 عاما على انفصالي الجسدي عنكم والاحداث التي مررت بها تعطيني العذر فيما اذا لم اذكر بعض الاسماع اللامعة – لا كرها ولا غيضا – وانما عامل الزمن وقوة الذاكرة والتي باتت تخونني في بعض الاحيان سبب ذالك-- انما انتم جميعكم اسرتي وانتمائي منكم واليكم احبتي.
من الذاكرة
حينما استعيد بعض ذكريات الطفولة وانا انصت الى اذاعة بغداد، كان ينتابني هاجس من السعادة والفرحة التي لا يمكنني وصفها في حينها، سعادة لا توصف، كنت احسها وانا اجلس قبالة المذياع (الراديو) مستمعا الى تغريدة البلبل بفارغ من الصبر، او استمع الى دقات الساعة المشهورة وهي تعلن عن موعد قراءة نشرة اخبار الساعة – كنت احبها من كل قلبي ولم يدر في خلدي يوما انني ساكون احد افراد اسرتها. كانت الاصوات المنبعثة منها تطرب الاسماع وتشد المتلقي الى برامجها، في حينها كنت اقرب اذني لاستمع الى مايبثه المذياع من الاخبار والبرامج المنوعه والترفيهية.
كان اسم المخرج المرحوم عبد الله العزاوي في حينها رفيقا لجميع الاسرالعراقية ومن خلال اخراجه للتمثيليات الاذاعية، وكنت ايضا استمع الى البرامج الريفية – والمنوعات – والقصائد الشعرية والتي كانت تنبعث من خلال الاصوات الرائعة اصحابها يتفننون بالقائها وتجسيد مضامينها، كل مذيعة ومذيع له اسلوبه الخاص بخامة اصواتهم واسلوب القائهم – مذيع عن مذيع يختلفان باسلوب قراءة كل منهما للمادة في تقديمها ان كانت برامج منوعات او ثقافية او سياسية او تنموية – مذيعات ومذيعين رسموا مسيرة حياتهم بحروف من التالق والابداع صاغتها خلفيتهم الثقافية وخبرتهم وتجربتهم والمبنية على الاكتساب الثقافي والخبرة الطويلة في مجال الاعلام زادت من نجوميتهم، اضافة الى ثقافتهم اللغوية، وحرفية الالقاء وجمال الصوت المتميز والنطق السليم لمخارج الحروف السليمة.
هنا بغداد (فاصل موسيقي) ومن بعدها ياتيك الصوت بحلاوته واحساسه الدافىء مرحبا بالمتلقي ومنوها بكلمات ترحيب جميلة ومعلنا عن مضمون البرنامج بكلمات شاعرية وموسيقية يضفي عليها جمال الصوت و الاثارة والتشويق ليشد المتلقي الى البرنامج.
اصوات تالقت بتقديم البرامج مما زادت من حب المتلقي للاستماع اليها او لمشاهدتها اي ان كانت عن طريق الاذاعة او عن طريق الشاشة الصغيرة – اصوات اصحابها تميزوا بجمال الطلعة والاناقة والثقافة العالية في عملية التعامل الحسي مع المتلقي-- كان المتلقي يستمتع بجمال الوجه والوسامة الجميلة لكلا من المذيعات والمذيعين من على الشاشة الصغيرة، قلما تجد مذيعات او مذيعين يتسمون بقباحة الوجه والصوت، وحتى ان كان هناك فجمال الصوت وحلاوة الالقاء يضفي للمذيع نجومية لاعجاب المستمعين والمشاهدين لهم.
حينما كنت تصادف مذيعة او مذيع في طريقك وانت سائرا بالقرب من الاذاعة، وكانك وجدت سحرا من الجمال زاد اشتياقك لهم وهم امامك تبهرك سحر ابتسامتهم وجمال منظرهم وهم ينظرون اليك بابتسامة جميلة تعبيرا عن مجبتهم لك. هذا هو واقع الحال مع مذيعي اذاعة بغداد وتلفزيون العراق، كنت تستانس باصواتهم وانت طفل صغير وهم خلف المايكرفون يقدمون برامجهم ولهذا كان يتبادر الى الذهن الطفولي ان تدخل من خلف الراديو او التلفزيون لعلك تشاهدهم، والانكى من هذا كله كانت مبادرة التقليد والمحاكات تخطر على بالك محاولة منك في تقليد اصواتهم وتقول:
– هنا اذاعة بغداد –
اصوات نمت وتطورت واسست لها مدرسة اعلامية متميزة باسلوبها
عن مثيلاتها في الاذاعات العربية.
كانت اصوات محمد علي كريم وحافظ القباني وسعاد الهرمزي وغازي البغدادي وعادل نورس وبهجت عبد الواحد وحسين حافظ وجنان فتوحي وخالد العيداني-- الخ ومن المذيعات امل المدرس وكلادس يوسف وسعاد عزت وخيرية حبيب وليلى الحمداني وميري اوراها وفريال حسين، والسيدة منى البصري اضافة الى كونها مخرجة ومتالقة الا انها كانت صاحبة صوت انثوي تحمل بين طيات حنجرتها براعم الانوثة والرقة في مخاطبة المتلقي – ياتي الرعيل الثاني من المذيعات والمذيعين والذين توجوا باصواتهم معظم البرامج الاذاعية منهن بشرى علوش وبان الراوي وكريمة محمد علي ومن المذيعين انور عباس وكمال جبر وبرهان خليل وجودة كاظم عزيز وفارس البغدادي وطه خليل والذين كنا نستمتع باصواتهم وهم يقدمون وبكل حب وشغف البرامج والتي طالما استمتعنا بالاستماع لها كبرنامج مساء العاشقين وبرنامج نادي الاذاعة وبرنامج استوديو عشرة وبرنامج بين الاذاعة والمستمعين، وعديدة هي البرامج والتي لا تخطر عناوينها على ذاكرتي، وعذرا لاخوتي من الاصوات الجميلة من المذيعات والمذيعين واللذين لم اذكرهم في تقريري هذا والعتب على ذاكرتي فعذرا.
لقد نجحت اذاعة بغداد وعن طريق منتسبيها وكوادرها الفنية والادارية ممن كرسوا حياتهم لخدمة الاعلام من حيث تقديم اعلى مستوى من التقنيات العالية لكوادرها من الفنيين والمخرجين الرواد والشباب متنافسين في العملية الابداعية للاخراج الاذاعي منهم ناظم فالح وفائز جواد ومظفر سلمان والمرحوم حسن الانصاري وطالب السعدي وانور عباس وزهير عباس ورياض عبد الامير وفريق عبد الرحمن وجنان عبد الحميد واتحاد الظاهر ومحمد زهير حسام وحلمي مراد ومنى البصري وحسن جاسم وعادل البدري وعلاء العزاوي وانا اخرهم جوزيف الفارس، هذه الكوادر الفنية كانت كالجندي في ساحة المعركة في اختياراتهم للاصوات الملائمة لبرامجهم، واختيارات الفواصل الموسيقية والتي تتخلل فقرات برامجهم، وهكذا كنا نلمس روحية التنافس الشريف من اجل تقديم الافضل للمتلقي غايتنا من هذا كله التغيير والتطوير.
كانت الكوادر الفنية في الاذاعة لا تتوانى عن العمل في الليل لوجود الاستديوهات الغير المشغولة من قبل الزملاء من المخرجين والذين كانوا يملكون من الابداع والثقافة العالية في اختصاص مهنتهم في الاخراج الاذاعي، حيث ان معظمهم من خريجي معهد الفنون الجميلة واكاديمية الفنون الجميلة، والاخرين من خريجي الدورات التدريبية في معهد التدريب الاذاعي والتابع للاذاعة والتلفزيون.
كانت هناك فترات صباحية وفترة الظهيرة والفترة المسائية وسهرة الليل ولكل فترة من هذه الفترات لها برامجها الخاصة تبث ضمن فتراتها المخصصة لها للبث وعن طريق قسم النتسيق باشراف الاعلامية القديرة (ام ايناس).
ففي الفترة الصباحية ياتيك صوتا مستبشرا بالخير وهو يؤدي لك تحية الصباح ومن ثم يعلن لك عن اغنية الصباح كاغنية ملك (صباح الخير يالوله) وتعقبها اغنية صباحية اخرى (ياحلو صبح ياحلو طل) وكثيرة هي البرامج الصباحية والمخصصة للموظفين وهم متوجهين الى وظائفهم ان كانوا بعرباتهم الخاصة او عن طريق عربات النقل العام وهم يستمعون الى برنامج السلامه العامة والذي كان من اعداد طارق رزوقي وتقديم فارس رشيد واخراجي ومن ثم توليت اعداده وتقديمه واخراجه.
كانت اصوات المذيعين تصنف وبموجب خامات اصواتهم فمنهم لبرامج المنوعات ومنهم للبرامج الاخبارية والسياسية والقسم الاخر للثقافية والتنموية اضافة للبرامج الدينية والريفية.
العديد من المستمعين او لنقل القسم منهم كان يعتقد ان بعض البرامج ولا سيما الثقافية منها والتي تعتمد على القصائد الشعرية فقط مثل برنامج (مساء العاشقين) هو ينفذ ومباشرة عبر الاذاعة تنفيذا حيا، انما هي بالحقيقة هو تسجيل خام فقط، انما شرح اسلوب التنفيذ تقع على مسؤولية المنفذ اي (المذيعة او المذيع) وبالتعاون مع ملاحظات المخرج حول كيفية الالقاء للقصائد الشعرية ومراعات اماكن التوقف، وتجسيد علامات الاستفهام والتعجب والنقطة والفارزة، ولكل من هذه العلامات لها وظيفتها في الالقاء تساعد المذيعة او المذيع على تجسيد المعنى وكما كان يحصل معي ومع المذيعة الرائدة والمتالقة الست امل المدرس، انها كانت ذكية جدا في تنفيذ المادة وتعلم علم اليقين بماذا ارغب عند قرائتها للمادة، فكانت حينما تقرأ وتؤدي قرائتها وبما يتفق مع رؤيتي في الاخراج كنت افرح وهي من شدة فرحها بهذا التالق في التنفيذ كانت تؤشر لي باصبعها من داخل ستوديو التسجيل وهي منهمكة في القراءة والابتسامة تعلو شفتيها وهذا ماكان يحصل ايضا مع الزميلة المذيعة الرائدة الست هالة عبد القادر في تنفيذ برامجي، ومن ثم اقوم بوضع الموسيقى التصويرية في عملية المونتاج بحيث ياتي الصوت والاداء في التنفيذ للمذيعة والموسيقى التصويرية (الباك راوند) قطعتان متلاحمتان في توصيل المادة الى المتلقي باجمل مايكون.
كانت الاصوات مختلفة ومتنوعة بخاماتها فمنها الاصوات والتي تتفق مع برامج المنوعات ومنها مع نشرات الاخبار والبرامج السياسية ومنها مع البرامج التنموية والدينية، فاذاعة بغداد كانت مدرسة فيها روادها من المذيعات والمذيعين، لهم من الخبرة والثقافة المهنية تؤهلهم بان يكونون مذيعين، وعلى سبيل الذكر المذيع الرائد محمد علي كريم والذي اهتم بتقديم البرامج الوثائقية والمهتمة بالسينما العربية اعداد وتقديما اضافة الى البرامج السياسية والاخبارية، وكذالك المذيع الرائد حسين حافظ والذي كان يعد ويقدم الرامج الدينية والرياضية، واما الاستاذ الرائد خالد العيداني فكان صوته ينتمي بنوعيته الى البرامج السياسية والاخبارية ومازلت اتذكر برنامج صحافتنا هذا اليوم والذي كان يعده ويقدمه لاقوم باخراجه للاذاعة – وكذالك الاستاذ حافظ القباني والذي كان وعلى طول مسيرة خدمته يقدم التعليق السياسي والذي كان يقدم من بعد نشرة الاخبار اضافة الى النشرات الاخبارية لكونه يتميز بصوت جميل وذات نوعية تصلح للنشرات الاخبارية والتعليق السياسي، وكذالك المذيع المقتدر الاستاذ محمود السعدي وفارس البغدادي وشقيقه غازي البغدادي والمذيع المقتدر صاحب الصوت الدافىء جنان فتوحي والذي عرف عنه معدا و مقدما لبرنامجه الناجح نادي الاذاعة اضافة الى تقديم البرامج الثقافية ونشرات الاخبار والرامج السياسية كون ان خامة صوته تصلح لجميع البرامج الاذاعية.
وكذلك من الاصوات التي كنت احبها هو صوت المرحوم زهير عباس وشقيقه انور عباس وطه خليل والذي اصبح فيما بعد باسم (طه البصري) والذي كان يقدم برنامج مساء العاشقين باداء رائع لكونه يملك خامة صوت دافئة تصلح لمثل هذه البرامج، وكذلك صوت المذيع ياسين الخلاني وزوجته المحبوبة بان الراوي ومقدم البرامج طالب السعد وليس المخرج الرائد طالب السعدي اطال الله في عمره.
اما المذيعات واللاتي اشتهرن بحسن التقديم ومهارة الاداء للبرامج السياسية والمنوعات والثقافية والتنموية حيث ابدعن وعلى مر السنين طيلة خدمتهن في الاذاعة واللاتي مازلن في الخدمة من امثال العزيزة والقديرة امل المدرس والست القديرة المذيعة هالة عبد القادر وسميرة جياد، اضافة الى الاصوات التي تمتعن بمواصفات ومقومات العمل الاذاعي المرحومة فريال حسين وصوت اختنا وحبيبة الاسرة الاعلامية السيدة منى البصري اضافة الى انها كانت مخرجة قديرة تتمتع بمهارة الاعداد والتقديم والاخراج، وكذالك اصوات اختصت بالبرامج الريفية والزراعية منها السيدة الوقورة زكية خليفة شقيقة القنانه الرائدة سعدية الزيدي اضافة الى تقديمها البرامج الزراعية وبمعية السيدة وجدان الاديب والفنانه القديرة ابنة البصرى عواطف سلمان.
جميع هذه الاصوات كانت تشكل مدرسة متميزة من مدرسة مذيعي اذاعة بغداد والتي ذاع صيتها بين الاذاعات العربية مما حدا بالاذاعات العربية الى ارسال مذيعي ومقدمي برامجهم للتدريب في معهد التدريب الاذاعي في العراق او للمشاركة مع مذيعينا في تقديم برامجنا عن طريق الاذاعة او التلفزيون للاستفادة من خبرة وتجارب مذيعينا.
والتفاصيل عديدة ومختلفة بقصصها ولا سيما تلك الاصوات التي كانت تمنع من مزاولة عملها الاذاعي لكونها لم تكن تخدم بعض الانظمة السياسية والقسم الاخر من يتدرج بالصعود الى المراتب العليا وبموجب ميوله السياسية والمتفقة مع سياسة النظام الذي كان يحكم ضمن تلك الفترة الزمنية من العمل الاذاعي، وانما للحقيقة وللتاريخ هناك اصوات في منعها عن وظيفتها الاذاعي كمذيعين او مقدمي برامج هو تصرف مجحف بحق هذه الاصوات والتي تضررت من خلال هذا الحرمان، فليس المذيع او مقدم البرامج لحقهم هذا الضرر، وانما الاذاعة هي التي تظررت بفقدان عنصر من عناصرها المتميزة بحرفية المهنة الاذاعية لكونها قد اكتسبت من خلال مسيرتها الطويلة وتجاربها وخبرتها وخدمتها الطويلة في هذا المضمار حرفة متكاملة الاوصاف ، وعليه فان مهنة المذيع هي مهنة لا يمكن تسييسها لكونها حرفة مبنية على حب العمل الاذاعي ودوافعه ليست سياسية بقدر ماهي مهنة صاحبها احب العمل الاذاعي، ولهذا كانت في معظم الاذاعات العربية والعالمية تمر عليها مراحل زمنية مختلفة بسياستها الظرفية والتي تتبع سياسة الانظمة المتلاحقة وفق مراحل الزمن المتعاقب يبقى المذيع محافظا على وظيفته الاعلامية كمذيع يؤدي وظيفته بامانة واخلاص وكما هو الحال مع المخرجات والمخرجين والذين كانوا يؤدون وظائفهم الفنية بكل حب وامانة، وهذا الحرص كان نابعا من خلال الحب لممارسة هذه الوظيفة الاعلامية ان كان مذيعا او مخرجا او فنيا من فنيي الاجهزة الصوتية وكما هو الحال مع المطربين والمطربات والذين ينشدون الاغاني الوطنية لجميع قادة الانظمة المتلاحقة، انما في هذا هم يؤدون وظائفهم ضمن مايملكونه من مقومات الاداء الفني للاغنية الوطنية خدمة لشعبهم ووطنهم.
خلاصة الكلام
تبقى اذاعة بغداد هي المرفأ الذي تشع من خلال نبراسها تجربة ومدرسة لا تضاهيها مدرسة في العمل الاذاعي-- وكل عام واذاعتنا بالف خير وهي تمضي بمسيرتها لتدخل عامها ال83 بسفينة قبطانها-- هو الابداع والتالق.