د. فارس مهدي رؤية ناضجة في الاخراج
ومبدع في تجسيد الصورة والصوت والحس الداخلي للممثل
لا يخفى على المهتمين بفن الدراما، مالاهمية المخرج من دور بارز وهاما في انجاح اي عمل درامي كان اذاعيا او تلفزيونيا او مسرحيا او سينمائيا، فالمخرج الجيد هو الذي يهتم بتوجيه وتسخير كل المقومات والعناصر الفنية الاخراجية من اجل ان يكون العمل المكلف به في اعلى مستوى النجاح، ولهذا هناك تباين في المستويات الثقافية والفنية مابين مخرج واخر من حيث القيادة والتسخير، وكذلك هناك رؤية غنية بالافكار والرؤية الاخراجية والتي يتمتع بها المخرج الناجح، ولهذا وجب على المخرج الحريص على عمله ان يكون حازما في اختيارات الممثلات والممثلين، وحذف واضافة ما يجده من صالح النص، وكذلك يقوم بمتابعة الكادر الفني من التقنيين والذي يصاحبونه في العمل الاخراجي، كالاضاءة والمكياج، وحركات الكاميرا وزواياها.
انه يهتم باللقطات المتميزة وانواعها، وعليه يعود سبب نجاح بعض النصوص الدرامية بفضل الروؤية الاخراجية التي لديه، اضافة الى تجربته التي يمتلكها في تفسير وتجسيد النص وما خلف السطور، مع معرفته بالكادر التمثيلي وقدرة كل ممثل وممثلة على تجسيد الادوار وفق احكامها وعناصرها التحليلية، وكذلك يملك ملكة في كيفية التعامل مع الكاميرات وزواياها المحددة من قبله عند التصوير، فالمخرج الحازم هو ذلك المخرج الذي يعرف ادواته، وكذالك يعرف حق المعرفة بادارته الانتاجية والتقنية من خلال الكاميرات ومن يقف خلفها، وكيفية تعامله مع الاضاءة اثناء التصوير ان كانت الاجواء ليلا ام في النهار، وتحديد المناظر والتي تساعد على استحضار اجواء التصوير في اختياراته لمواقع التصوير، ويسمح له بالتعامل مع النص وبالاتفاق مع كاتب النص من اجل تجسيد رؤيته الاخراجية وحرية الاختيار للممثلات وللممثلين والذين تتفق شخصياتهم مع شخصيات العمل الدرامي من حيث الشكل والصوت والطول وسرعة الحفظ.
جميع هذه المقومات والعناصر والتي تساعد على نجاح العمل الدرامي كان المخرج التلفزيوني والسينمائي د. فارس مهدي يراعيها في اعماله، وهذا هو سبب نجاحه في الاخراج التلفزيوني، واصبح عامودا من اعمدة المخرجين التلفزيونيين في شبكة الاعلام العراقي، واذا عدنا الى سابقات ايامه الدراسية في المعهد والاكاديمية، واطلعنا على سيرته الحياتية والفنية، لعلمنا بانه كان يهوى الدراما وفن التصوير الفوتوغرافي والسينمائي، ونمت لديه هذه الموهبة، بحيث اصبح لا يفارق كامرته الفوتوغرافية والخاصة به.
هذا الفنان الهاوي للتصوير، والمتطلع من خلف عدسته الخاصة لكامرته الفوتوغرافية zenith) روسية الصنع وعدستها (mm50 ) والتي لا تفارق يداه، كان يلتقط كل منظر طبيعي يعبر عن صورة ملحمية ذات جمال خارق بالالوان الطبيعية، يلتقط الانهار والاشجار والبحيرات والجبال، والواحات الصحراوية وبيوتها الشعرية، كان يلتقط كل صورة يتحسس جمال تعبيرها الواقعي والرمزي، يستانس باصوات الطبيعة وبما فيها من الاصوات الخلابة، والمعبرة عن ملحمية الرمز لجمال الصورة الواقعية الحية، كان الواقع ملهمه بكل تجريداته واشكاله المعبرة عن تلاحم الطبيعة مع مراحل تغييرات الاجواء والتي كانت تتفاعل في نحت جميل، يتمخظ عن هذه التفاعلات المناخية والطبيعية رموزا يستمتع المتلقي في الوصول الى مضمونها الراقي، كان يعشق الطبيعة ومافيها من الجمال والزهو، وكذلك يهوى المطالعة وقراءة الادب الروائي لمعظم كتاب العالم من الذين اعدت رواياتهم لصناعة سينمائية عالمية ويتابع افلامها.
انه من مواليد 1957 في مدينة بغداد ومن منطقة باب الشيخ، فلقد دلف عالم الفن في الستينيات حينما كان المرحوم والده يصطحبه احيانا الى مجمع مسرح وسينما روكسي وسط بغداد لمشاهدة المسرحيات الاجتماعية، اضافة الى ذهابه وبصحبة والده ايضا الى سينما الفردوس في ساحة النهضة القريبة من دار سكناه، وهكذا ومن خلال هذا الارتياد لدور السينما في بغداد انخلقت لديه العلاقة مع الفن السينمائي، حيث بدأت هذه العلاقة تتطور ومع مرور الزمن حتى اصبحت السينما جزء من حياته قبل القراءة، فالصورة وكما يعتقدها انها تعنيه قبل الكلمة، والعدسات الفوتوغرافية في الرؤية تمثل له هبة وموهبة سعى لتطويرها وعن طريق كامرته والتي شرع بالتقاط الصور الطبيعية والواقعية ومن خلال رؤية كانت تتمخظ عن خيال خصب لتجسيد ملاحم الصورة التعبيرية والرمزية والواقعية من الحياة التي كان يعيشها، فتارة تراه يلتقط صورة متسول حافي القدمين وملتحفا بجسده على الارض يقي جسده من برد الطبيعة، وتارة يصور رجلا حمالا يحمل على ظهره احمالا ثقيلة تثقل كاهليه وظهره، ليجسد معاناة هذا الرجل من اجل لقمة عيشه وعيش اطفاله، وتارة يستغل هطول الامطار ليصور الطبيعة في شكل خلاب مازجا اللقطة مابين غيومها وهطول امطارها، وهكذا اصبح هذا الولهان بالصور والتصويرعاشقا لفن السينما بحيث ابتاع له ماكنة عرض سينمائية يدوية الصنع قياس 35MM سينمائية ليعرض على جدار بيته الابيض افلاما صامتة ملونة لاطفال الحي في بغداد، كان مغرما بافلام الويسترن الامريكية والافلام الاسطورية وافلام المغامرات، ولقد صرح في احدى الوسائل الاعلامية انه يكره افلام الرعب والظلام.
ان المخرج التلفزيوني المبدع د. فارس مهدي والتي شهدت له الساحة الدرامية التلفزيونية اروع المسلسلات والتي نالت استحسان الجمهور من متابعي الدراما العراقية، لديه حس مرهف في كيفية التعامل مع الصورة والصوت، ولديه القدرة ايضا في كيفية التعامل مع الممثل وتجسيد احاسيسه والتعابير الحسية للمشاعر الداخلية، فكان الممثل احدى وسائله التي يعتمدها لتوصيل فكرة المشهد باسلوب تلقائي الى المتلقي، ولهذا كان يعتمد على الممثل والذي يعرف كيف يتعامل مع الشخصية، ويجسد ابعادها، ويتجنب التعامل مع الممثل والذي يبحث عن الاجور الا ماندر، لانه يؤمن بان التمثيل هو جزء من ادواته وعامل مساعد على انجاح العمل الدرامي في التلفزيون، ولهذا كان يتعامل مع الفنانات اسيا كمال، والدكتورة شذى سالم، والدكتورة سهى سالم، والدكتورة عواطف نعيم، ومعجب في تمثيل ابتسام فريد وتعاملها الاكاديمي مع الشخصية.
لقد تاثر بصناعة السينما العربية وبمخرجيها الرواد، ولهذا هو من اشد المعجبين بالمخرج صلاح ابو سيف ومتابعا نشطا لجميع افلامه ومتاثرا بمدرسته الاخراجية (الواقعية والرمزية) وكذالك يعجبه المخرج شريف عرفه وعاطف الطيب.
فلقد صرح هذا المبدع التلفزيوني باساتذة تفضلوا عليه بثقافتهم وخبرتهم في السينما والتلفزيون منهم:
الراحل الاستاذ جعفر علي والذي صقل موهبته السينمائية تقنيا ونظريا، وزاد اعجابه وتاثره به كمخرج عراقي واقعي بعد ان شاهد له فيلم المنعطف سنة 1977 حتى انه قام بتحليل هذا الفلم كصناعة عراقية في دروس الاخراج والذي اشرف عليه الراحل جعفر علي في تحضيراته لهم.
كان فارس مهدي مولعا بالقراءة ولاسيما انتاجات نجيب محفوظ الروائية، فهو لم ينقطع عن قراءة جميع رواياته ولا سيما المعدة منها للسينما، مما زاد في نفسه الميل الى الادب، ودراسة اليات الاقتباس والاعداد للسينما بنوعيه المباشر والغير المباشر، كان يقرأ الرواية قبل المشاهدة ومقارنة ذلك مع الفيلم وبالعكس، وهكذا ينطبق الحال على الافلام الاجنبية والتي كانت تعتمد على الروايات، فكانت اهمها في دراسته هي رواية الحرب والسلام لتولستوي، ومتابعة وتحليل نسختين من الافلام، الاولى النسخة الروسية للمخرج سيرجي بندر جوك (4 ساعات) والنسخة الامريكية للمخرج King ridor) ) ساعة واحدة، ويعمل مقارنة مابينهما، كل هذا ساعد في تجربته العملية الاولى في الدراما التلفزيونية عندما تقدم الفنان الراحل يوسف العاني بمشروعه الوطني لتحويل الادب الى دراما تلفزيونية، من خلال عشرة قصص عراقية، كان من نصيبه قصة (العودة الى الطاطران) للقاص الراحل عبد الستار ناصر رحمه الله في اوسع جناته، وقد مثل فيها كل من الفنان الراحل الكبير قاسم محمد، والفنانة القديرة ابتسام فريد والتي حازت على افضل ممثلة في دورها بهذا العمل الذي شارك في مهرجان تونس للتلفزيون في التسعينيات.
د. فارس مهدي، تالق في مسيرته الفنية، واصبح اسمه يشار له بالبنان بين الاوساط الفنية والاعلامية، والفضل يعود الى هذا الاكتساب الثقافي والعلمي في التعامل مع الحرفة المسرحية في مرحلة دراسته في الاكاديمية، الى الاساتذة الذين اثروا في دراسته وتعليمه اصول الفن والتمثيل هم: الفنان الراحل بدري حسون فريد اولا والفنان المصري محمد توفيق ثانيا الذي كان يعمل محاظرا في قسم السينما، فمن خلالهما استطاع ان يتعلم تقنيات التمثيل في السينما والتلفزيون، وكذلك في المسرح كمخرجا تعلم كيف يحافظ على الاستمرارية النفسية والانفعالية عند الممثل السينمائي او التلفزيوني، يختلف عنه في المسرح، وذلك بسبب التقطيع الذي يحصل اثناء التصوير وتغيير موقع الكاميرا، ولكن في بعض الحالات المهمة والنادرة كان يلجأ الى استخدام اللقطة المستمرة الطويلة، مع حركة الكاميرا وحركة الشخصية، للمحافظة على تلك الاستمرارية، وهذا ما حصل معه في دراما (الاستاذ عزمي يغادر المنزل) مع الراحل يوسف العاني، حيث اراد المحافظة على الحالة النفسية او الشعورية للمثل في مشهد طويل يرويه الفنان المرحوم يوسف العاني وهو جالس منفردا في فجر يوم حزين، حيث صور هذا المشهد بلقطة مستمرة ذات الدورة الطويلة دون ان يقطع الحالة النفسية او الشعورية عند الفنان المرحوم يوسف العاني.
طبعا هذه اهم الاختلافات بين التمثيل السينمائي والمسرح، وهذا لا يعني ان الممثل في المسرح لا تنقطع مشاعره اثناء تغيير الفصول، ولكن تكتيك ممثل المسرح وعلاقته المباشرة مع الجمهور، تساعده على المحافظة على الحالة النفسية بعكس الممثل السينمائي والذي يلتزم بحدود اللقطة، ويكون متفوقا في ادائه ومن خلال اللقطة القريبة وباستطاعته التحكم بالصوت.
لقد عمل مع المخرج فارس مهدي العديد من الفنانين، ولكن احبهم الى قلبه هو الفنان الراحل يوسف العاني وقاسم محمد والدكتور هيثم عبد الرزاق ومناضل داود وكنعان علي، وهذا الحب جاء نتيجة تعامل بعض الممثلين والمذكورين من خلال حرفية اكاديمية يساعد المخرج في عملية التواصل، ويعطيه مساحة زمنية في العمل، وهناك ممثل مستعجل وغير متقن لدوره، وغير حافظا لحواره، ومرتبك في الاداء، ويعمل بدافع الاجر اولا، فمثل هؤلاء الممثلين يلعب الحظ في فرضهم عليه لاسباب انتاجية، وكذلك ينطبق مثل هذا الحال على الممثلات العراقيات، وهذا التنويه عن هذه الحالة جاء عن تنويهه في حالات استثنائية، عن واقع الحال الظرفي ليرضخ لمثل هذا الواقع وغير المستحب. لقد اعجب الدكتور فارس مهدي ببعض الممثلات المتميزات منهم الاء محسن والتي تتميز باتقان دورها، وتفاعلها مع النص، ومحاولة ان تعيش اللقطة الواحدة ي جوهرها، وتتميز ايضا بادائها الطبيعي، ومبتعدة عن الاداء الميكانيكي.
حدثني د. فارس وعن طريق التواصل الاجتماعي قائلا: بعض الممثلات يستطعن ذرف الدموع بمجرد ان يلفظ المخرج اكشن، او يضحكن بسرعة انما الفنانة السيدة ابتسام فريد، ارادت وقتا مني في دراما (الطاطران) قبل التصوير، حيث جلست لوحدها استعدادا لمشهد محوري (لقائها مع ولدها قاسم محمد بعد عشرون عاما من الفراق) .
طبعا اعزائي القراء، هذا الطلب والذي جاء من قبل الفنانة ابتسام فريد، لم يكن الا من خلال ثقافتها الاكاديمية والتي تسمح لها بمراجعة دورها وفق متطلبات المشهد، حيث انها ستراجع دورها، وتتاكد من تحليل دورها، وردود افعالها، اضافة للاحاسيس الداخلية والمشاعر الانسانية لام تلتقي بابنها بعد عشرون عاما، حتما هذه الفنانة ستسال نفسها ب كيف ومتى ولماذا واين، وعندما ستجد الاجابة وتكون متهيأة لملاقات ولدها كممثلة وانسانة في الوقت نفسه، عندها ستعلن استعدادها للمخرج على انها مستعدة للتصوير.
اما عن الفنانة اسيا كمال، فقد ذكر عنها قائلا: انها تفعل ذلك في المشاهد المهمة، حيث يذكر المخرج فارس مهدي في حديثه قائلا: ان اسيا كمال تفعل ذالك في المشاهد المهمة، اذ اراها تختلي مع نفسها في دراما مسلسل (بيت الشمع لقناة الشرقية) قبل التصويرلتستعيد ذاكرتها الانفعالية.
ان الفنان المخرج د. فارس مهدي، يحبذ العمل مع الفنانات القديرات والمبدعات في تمثيلهن منهن، الفنانة القديرة شذى سالم والمتالقة سهى سالم والفنانة المبدعة احلام عرب.
هو يؤمن بان الممثل المبدع يجب ان يحافظ على مقومات عناصر التمثيل من تحليل الشخصية وايجاد ابعادها، والتوغل في كيفية رسم ملامحها الخارجية وعن طريق فن المكياج، وهذا هو من وظيفة الممثل المبدع ولاسيما في الادوار الرفيعة ذات المستوى العالي، وهذا بالطبع لا نجده في الاعمال التجارية، او مسلسلات المقاولات لاشباه المنتجين وممثلوا الدرجة السابعة.
ومن جهة اخرى، حدثني فارس مهدي باسلوبه الهادىء وبتواضعه المعهود وعن طريق اتصالي به، انه جدا سعيد بتعامله مع الكاتب والممثل المرحوم يوسف العاني، ولم يجد من يهتم في التطوير العلمي في التاليف والاعداد لنصوصه الدرامية.
اما عن اسباب توقفه عن العمل فيجيب قائلا: هو هذا الوضع العام وواقع الحال للعمل الفني ان كان في التلفزيون او السينما، بعكس الاعمال التجارية والسريعة الانتاج والتنفيذ.
بقي ان نعلم بان المخرج المبدع د. فارس مهدي، قدم في دراسته الاكاديمية فيلمين من اخراجه الاول في المرحلة الرابعة، وهو فيلم (اغنية التم) للكاتب انطوان تشيخوف، وفيلم (الشمس لا تشرق مرتين) حيث كانت هذه التجربة في سينما المؤلف في المرحلة الخامسة.
واخيرا ان المخرج د. فارس مهدي يؤمن بان على اي مخرج ينبغي ان يكون مثقفا وذو خبرة وتجربة في مسيرته الفنية، وان يطلع على الادب المسرحي والروائي والشعري، وان يسمع ويشاهد ويحتك مع المخرجين، وان يتعايش مع تجاربهم التلفزيونية والمسرحية والسينمائية، وهو يؤمن بان القراءة والمطالعة هي سبيل مفتاح التالق والابداع والتكامل لكل مخرج.
واخيرا يبقى الدكتور فارس مهدي، عنوانا لرؤية ناضجة في الاخراج، ومبدع في تجسيد الصوت والصورة والحس الداخلي لحرفية الممثل.