المحطات كثيرة في حياة كل فنان، وكل محطة تعبر عن جغرافية مساحتها وعما تضمنتها هذه المساحة الحياتية من تجربة وخبرة كل فنان في الوقت نفسه، معاناتها ومأساتها.
وهكذا كانت بدايتي وحكايتي مع المسرح العمالي في العراق، هذه البداية كانت حلما يراودني من اجل تحقيقه، والتفكيرفي كيفية الولوج الى داخل هذا الرحم ليتمخظ عن ولادة حركة مسرحية بتجربة حديثة لم تكن موجودة على الساحة العراقية انذاك، الا وهو:
المسرح العمالي
هذا الحلم الذي كنت اتمنى تحقيقه توصلت الى حقيقة جوهرية وهي، ان بداية تجربته، يجب ان يكون فيها من المصداقية وحقيقة الواقع المؤلم الذي يعيشه عمالنا، وليس من يستطيع تجسيد هذا الواقع بماساته، الا الطبقة العاملة بنفسها، لانها تعيش هذه الماسات بتجربة حقيقية وملموسة، وينبثق من خلال واقعها صورا عديدة لحقيقة هذا الواقع المتردي الذي كان يرافق حياتهم، ولا سيما الواقع الاجتماعي والاقتصادي، من اجل ان تكون تجربة عمالية حقيقية تعكس حياة العمال وعلاقاتهم مع اصحابي رؤوس الاموال والمستغلين لجهودهم.
كانت فكرة تاسيس المسرح العمالي هي فكرة نابعة من خلال منحدر طبقي عمالي، وليس له صلة لا من قريب ولا من بعيد بالارتباط الحزبي بقدر ماكانت اولويته طرح معانات،] وظروف حياة الطبقة العاملة والتي لم تشملها العدالة الاجتماعية، وحق تحقيق العدالة الاجتماعية في الحية السعيدة له ولعائلته.
اذن-- فكيف السبيل الى تحقيق اول خطوة لتجربة مسيرة مسرح له خصوصية في المضمون ولربما ايضا في الشكل .
وهكذا بدأت ملامح الفكرة في انتهاج الخطوة الاولى عندما استدعاني الفنان القدير المرحوم ابراهيم جلال ومع زوجتي الفنانة مريم الفارس لننضم الى تجربة معهد بغداد التجريبي والذي كان مقره في مسرح بغداد الحالي في منطقة البتاوين خلف سينما النصر، والذي اصبح فيما بعد مقرا لفرقة مسرح الفني الحديث، حيث استدعى انذاك نخبة من طلبة وخريجي معهد الفنون الجميلة واكاديمية الفنون الجميلة، من الطلبة المتميزين انذاك، امثال:
الفنان عزيز خيون، وحسن عبد، ومريم الفارس، والدكتور عوني كرومي، والفنان غازي ميخائيل والموجود حاليا في سدني، والفنان سامي ياقو، وطارق كرم، والفنانه امل خضير شقيقة الفنانه سليمه خضير، والمخرج التلفزيوني جمال محمد، واخرون لاتسعفني ذاكرتي لذكر اسمائهم، وقد شاركنا في انتاجين مسرحيين لهذا المعهد الاول هو مسرحية علاء الدين والفانوس السحري من النصوص العالمية واخراج الاستاذ الرائد المرحوم جاسم العبودي، وبطولة مريم الفارس وطالب اخر اسمه ايضا علاء وقد شاركت في هذا العمل بدور رئيسي السلطان والد بدور.
والانتاج الثاني هو مسرحية المسيح يصلب من جديد لايليا كازادزانكي واخراج المخرج المبدع المرحوم عوني كرومي، وهي من بطولة مريم الفارس والمرحوم الفنان جباركاظم والفنان عزيز خيون وحسن عبد ولفيف من الطلبة المتميزون في حرفية التمثيل.
ومن هنا، ومن هذا المعهد بالذات، انطلقت فكرة تاسيس المسرح العمالي حيث مهدت لهذا التاسيس، ريبورتاجا صحفيا مع الاستاذ المرحوم ابراهيم جلال بعنوان (من اجل خلق مسرح عمالي) لمجلة وعي العمال انذاك، وقد شرح الاستاذ المرحوم ابراهيم جلال في حديثه عن دور هذا المسرح في عملية نشر الوعي الثقافي، ودوره في تسليط الاضواء على اهم المعوقات التي تعترض سبل تطوير الانتاج وتحسينه كما ونوعا، اضافة الى التجربة الرائدة لهذه المسيرة في العالم الصناعي ودوره الريادي في شرح ابعاد دور الطبقة العمالية في تحسين الانتاج.
وقد نشر هذا الريبورتاج وعن طريق الاخ الصحفي وائل الالوسي مسؤول التحرير في امانة الثقافة والاعلام في الاتحاد العام لنقابات العمال في العراق، لم اكتفي بهذا التحقيق، وانما حاولت ترفيد المجلة بروبرتاجا صحفيا اخر مع الاستاذ المرحوم المخرج جاسم العبودي تحت نفس العنوان.
فبعد نشر هاذين الريبورتاجين في العددين المتتاليين من مجلة وعي العمال، اصبحت فكرة تشكيل المسرح العمالي فكرة خصبه تراود كل النقابات لتنفيذها، وهكذا وجدت نفسي مسرعا الى مكتب نقابة البريد والبرق والمطابع والاعلام لتقديم طلب مبينا فيه استعدادي لتاسيس فرقة مسرحية عمالية، وكان في وقتها السيد علي المولى رئيس المكتب ووافق على تشكيل الفرقة المسرحية، وابدى استعداده على تسهيل مهمتي حيث في وقتها كنت موظف في دائرة الهاتف المركزي والتي كانت مرتبطة نقابيا بمكتب نقابة البريد والبرق والمطابع والاعلام.
وهكذا انبثقت اول فرقة مسرحية عمالية لنقابة البريد والتي كانت تجري تمارينها في دائرة السينما والمسرح لقرب موقع النقابة منها في كرادة مريم، وهكذا توجت الخطوة الاولى والتجربة الرائدة العملاقة في مسرحية ايام العطالة من تاليف الكاتب العراقي المرحوم ادمون صبري واخراجي.
ضمت هذه الفرقة الفتية كل من الفنانين مريم الفارس والفنانة الرائدة سناء سليم والفنان عماد بدن، والفنان المرحوم صبحي العزاوي وعبد الرزاق الشريفي والفنانة الموهوبة سهيلة عبد الجبار واخرون لا تسعفني ذاكرتي بذكر اسمائهم والتي نالت نجاحا كبيرا في عروضها اليومية ولشد كان سوري وفرحي حضور هذا العرض عميد المسرح العراقي المرحوم الاستاذ حقي الشبلي، والذي اثنى على العمل واشاد به، حيث دامتعروض المسرحية لعشرة ايام متوالية.
في هذه المسرحية حاولنا طبع البطاقات لبيعها على العمال بسعر رمزي وقدره 150 فلسا، الا ان امانة بغداد طلبت ضريبة على بيع البطاقات بمبالغ يفوق مردودات بيع البطاقات، فعلى اثر هذا جاء القرار من مكتب النقابة بمجانية الدخول لمشاهدة العرض المسرحي للعمال، مع تقديم مذكرة اهتجاج حول ذالك الامر ونشره في الصحف المحلية، فما كان من الجهات المختصة الا اصدار قرار بالغاء الضرائب عن المردودات المالية للعروض المسرحية لجميع الفرق المسرحية في العراق، وبهذا اكون اول مخرج خطى خطوة متقدمة باتجاه رفع الضرائب عن العروض المسرحية وتشكيل اول لبنة لفرقة مسرحية عمالية في العراق.
وهنا ينتابني الفرح كلما تذكرت حالة مازلت أعتزا بذكراها وهي حينما جائني الاستاذ كارلو هارتيون المخرج التلفزيوني والذي كان يقوم بتسجيل المسرحية ليخبرني بان الفصل الاول من المسرحية لم يسجل لحدوث خلل فني والذي اصلح فيما بعد، والمسرحية كانت بثلاث فصول، فاقترحت عليه ان يبدأ بتسجيل الفصل الثاني والثالث، وبعد الانتهاء من العرض المسرحي نبدأ بتسجيل الفصل الاول، فاستحسن الفكرة، وانما طلب مني ان نطلب من الجمهور ان لايغادر القاعة الا بعد تسجيل الفصل الاول لكي يعطي الجو العام للعرض المسرحي وبحضور الجمهور، وبالفعل بعد انتهاء العرض المسرحي والجمهور ينتظر خروج الممثلين للتحية، فوجئو بالاخ عضو النقابة العامة السيد احمد السامرائي طالبا منهم المكوث في اماكنهم لعرض الفصل الاول وتسجيله للتلفزيون، وما كان من الجمهور الا ان يصفق فرحا لهذا الخبر وبالفعل تم تسجيل الفصل الاول وبحضور الجمهور، والذي ابى الخروج من المسرح الا وتكملة العرض المسرحي بفصوله الثلاث، الا ان الوقت كان متاخرا وبرجاء مخلص طلبنا منهم اخلاء القاعة والحضور في اليوم الثاني لمشاهدة المسرحية كاملة.
في وقتها كنت متعبا جدا الا انني توجهت الى غرفة الممثلين لاهنئهم وادعمهم معنويا بكلام احثهم على تقديم الافضل في اليوم الثاني، واذا بشخص ضعيف البنية، اسمر الوجه، لاحضته متوجها باتجاهي ليهنئني على نجاح العرض المسرحي، فشكرته على ثنائه واطرائه، عندها قدم لي نفسه باسم - صباح الزيدي وهو من اهالي البصرة.
وحاليا انه عسكري ومنتدب الى الفرقة القومية للتمثيل، وقد علمت فيما بعد بان الفرقة كانت قد قدمت مسرحية من تاليفه بعنوان قصر الشيخ واخرجها للفرقة القومية للتمثيل المخرج المرحوم الاستاذ وجيه عبد الغني، كان في وقتها مديرا للفرقة القومية للتمثيل، وجعل يشرح لي موقف بعض المعنيين في الفرقة القومية ومحاربتهم له، ومن ثم قدم لي نصا مسرحيا من تاليفه راجيا مني قرائته وابداء رايي فيه، وبيان مدى صلاحيته لتقديمه من قبل فرقة نقابة البرق والبريد والمطابع والاعلام، فاخذت منه النص المسرحي وكان بعنوان رصيف الغضب، والتي دارت احداثه في البصرة، وقد ابديت ملاحظاتي بعد قرائتي للنص، وابدى استعداده على تقبل هذه الملاحظات شاكرا لي تعاوني معه.
ومن هنا بدأت علاقتي تزداد بالكاتب صباح الزيدي انذاك، والذي اصبح فيما بعد ب صباح عطوان.
تابعونا....