الخط الاحمر..
مسرحية عتاب من الحربي على الوطن (ليش هيجي ياوطن)؟؟!!
حينما يبدأ اي كاتب نص مسرحي في اعادة صياغة التاريخ عبر منظور فيه من الحداثة مجسدا من خلاله منظور فكري وسياسي وفلسفي، قد يتناول من خلاله السمات التاريخية ويطرحها بقيمة جمالية غايته من هذا ان يمنح العمل صفة الكمال محافظا من خلاله على عملية التواصل، وخلق علاقة متفاعلة مابين العرض ومابين المتلقي، ولربما هي كانت فكرة جاهزة في مخيلته، هذه الفكرة قد يكون عاش احداثها بماسيها، او سمع عنها، وجائت رغبته ومن خلال اعجابه وتاثره باحداثها ان يصوغ هذه الاحداث مشبعا اياها باحاسيسه ومشاعره المكبوتة في داخله والتي جاءت عن طريق هذا التاثير الخارجي.
في بداية استحضاراته للكتابة عن موضوعه المتاثر به، هو لا يعلم كيف سيبدأ ببدايته، ولا كيف سينتهي بنهايته، بقدر ماجعل عملية التواصل والملاحقة لافكاره، تفرز معاناته وعن طريق الصور التي يستحضرها من الماضي، او من الاحداث المعاصرة ليطرحها وبموجب قدر تاثيراتها عليه، باحاسيس ومشاعر يستفز من خلالها المتلقي، غايته من هذا تحريك المشاعر واثارة عواطفه لما يشاهده من الاحداث المعروضة امامه، والتي هي في الوقت نفسه احداث لم تنفصل عنه، وجزءأ لا يتجزأ من ماضيه الذي عاش قساوته ومرارته. وهذا الشيىء لا يطرح نفسه الا من خلال صياغة معاصرة وفنية يصوغها الكاتب بشكل فيه من الحداثة واسلوب يحافظ على التشويق وعنصر الترقب، ليخلق عند المتلقي حالة من التنفيس والتطهير فقط ، انما الالتزام بعدم المبالغة بما يجسد من الفكرة الرئيسية وعرضا مشوقا يبدو من خلاله الطرح الحقيقي لمصداقية مايطرح على المتلقي. ولهذا انبثقت انواع الاساليب والمدارس والمذاهب المسرحية والتي تمخضت عن اشكال فيه من الصياغة الفنية، وحداثة في الطرح ومنها: المسرح التعبيري-- والمسرح الملحمي ومسرح الفقير-- والسياسي، وكل من هذه المذاهب لها خصوصية في الاسلوب والتعبير، ومقومات عناصرها التي تميزها عن غيرها من المذاهب والتي تمخضت عن واقع حال الظروف الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية. وهكذا جائت مسرحية الخط الاحمر والذي شخصت ومن خلال الحاجزالاحمر بضرورة الثورة على المجتمع الذي يسوده الزيف والتملق والفساد والظلم ، ودعوة من هذه المسرحية بالثورة العارمة على هذا الظلم والفساد الاجتماعي.
ولهذا نلمس من خلال مضمونها دعوة الى الاهتمام بالتحرير والالتزام بالارادة والمواقف الاخلاقية، ودعوة الى حرية الفرد والمجتمع. وصياغة هذا الطرح بشكل متوازيا مع مايحمله الكاتب من رد فعل باتجاه تلك الظروف القاسية التي عاشها وتاثر باحداثها، او سمع عنها.
ولهذا حاول (الحربي – الكاتب) صياغة استفزازه للمتلقي ومعبرا في الوقت نفسه عما يحمله من وجهة نظر تحمل تاثيرات مشاعره واحاسيه الداخلية ليجسدها على سطح خشبة المسرح، ولهذا فالمسرح التعبيري هو ذالك المسرح المتناقظ للاسلوب المؤثر من خارج كيان الكاتب والذي يعبر عن حالة من حالات افراز مايحسه من الداخل ليجسده على خشبة المسرح باسلوب لا يعلم مسبقا عن شكله، ولا عن انتمائيته المذهبية في حالة كتابة النص او اعداده الا بعد تجسيده في عرض مسرحي متكامل يضعه النقاد والمعنيين في فنون المسرح الى انتماء لمدرسة من المدارس المسرحية هو نفسه لم يكن يتوقعه. ولهذا اكد الحربي في توصيل مضمونه الفكري ونظرته الى واقع الاحداث المؤلمة على اثارة غضب المتلقي وتحريضه على كونه ان يكون عضوا فاعلا في عملية التغيير، اضافة الى هذا استخدم في اسلوب كتابته نوعا من انواع التغريب الموجود في مسرح برتولد برشت في مشهد جميل ومتالق انسابت احداثه وعن طريق الممثلتين الرائعتين (فاطمة الوادي وفريال الخميسي) في مشهد المستشفى والمحكمة والعلاقة الغير الشرعية مابين جبارة المبتور الساق ومابين الممرضة التي استجابت ورضخت الى اغراءات جباره وكان الذي كان، الاسلوب المتميز في هذا المشهد هو الشراكة مابين الممثلتين في عملية تجسيد الرجل والمراة وبشكل دوري دون التقيد بالجنس الواحد في التمثيل، المهم هو التعبير عن احداث المشهد وفكرته دون الرجوع الى مسرح ستانسلافسكي بوجوب تحديد عنصر التمثيل الا عن طريق الجنس الواحد، انما في هذا المشهد الجميل استطاع المؤلف الحربي ان يترجم فكرة المشهد ومن دون الرجوع الى تحديد الجنس ان كانت امراة او رجل، وبهذا اراد ان يعرف المشاهدين ان كان، بقصد منه، او من دون قصد، ان مايعرض امامهم هو تمثيل ليس الا، وبهذا هو لم يكسر حاجز الوهم اي الجدار الرابع لان الحاجز الوهمي كان ينتقل مع الممثل من موقع والى موقع اخر وكما عرضته في نظريتي (حقيقة الحاجز الوهمي) في اعداد سابقة من على صفحات صحيفتنا بانوراما الغراء.
افتتح العرض المسرحي بمؤثرات كانت غير واضحة والعتب على التسجيل الغير النظيف، والذي انقذه الصوت الجميل والعذب ليعلن عن هوية العمل وباسلوب كما هو الحال في المسرح الملحمي (استغلال الصوت وتطويع الحنجرة النظيفة والمتالقة في الاداء عن الكشف لهوية العرض المسرحي). ابتدئتا الممثلتين المتالقتين في التمثيل (فاطمة الوادي وفريال الخميسي ) بعرض مشهديهما الرائع والجميل بالكشف عن تذمرهما من الواقع الذي بعيشونه في حوار جميل وذو موسيقية رائع في الالقاء حينما تعلن احداهن وبكل مشاعرها واحاسيسها بان ( الكواسج ارحم من اهلنا)، وهي الامراة التي (داوت جروح الناس كلها ومحد لكالها دوه) انما الشيىء الغير المستحب في حوار (الوطن ماشفنا راحة منه) هو وقفة الممثلتين الرائعتين في هذه المحاورة وعلى خط مستقيم واحد، انما هي ليست بقاعدة ثابتة يحاسب عليها، بقدر ما هي وقفة لاستعراض جسد الممثل وبشكل يحمل من جمالية الوقوف على خشبة المسرح ولا يسمح في هذا الا ان كان الممثل راويا، او مخاطبا مباشرا مع الجمهور، انما في الجانب الاخر استطاع (الحربي، المخرج) ان يوفق مابين حركات الممثلتين وانتقالهن وبشكل يجمعهن بجمالية التعبير، وخلق حالة جمالية يجسد من خلالها مضمون حوار المشهد المؤلم، استطاع (الحربي المخرج) ان يمزج مع المسرح فنا تشكيليا من خلال حركة رائعة ادتهن الممثلتين المتالقتين بخلق علاقة تشكيلية مع العباءة السوداء، وانما لم يتمكن من ابعادهما عن حالة البكاء والنحيب، والذي رافقهما وعلى طول فترة العرض المسرحي، صحيح ان المشهد يتطلب من الممثل تحرير مشاعره واحاسيسه الفنية من ذاته، انما لو استطاع الاستعاضة عن هذا البكاء باسلوب يتعامل مع الاحاسيس الذاتية والتعبير الصوتي الحسي والذي يؤثر في تغيير ملامح الوجه وهذا بالطبع يتبع اجتهادات المخرج والممثلتين معا من خلال تحرير الفعل الداخلي لكل منهما، ثم ينتقل بنا (الحربي، الكاتب) الى مشهد اخر مستغلا هذا الانتقال، باغنية تساعد الممثلتين على تهيئة اجواء المشهد اللاحق في المستشفى، حينما تلولي الام، مبتدئة المشهد في المستشفى وهي تحلم بحلم الامومة وامنياتها في هذا الحلم انما تجابه بقرار احالتها الى مجلس التحقيق لتورطها بعلاقة غير اخلاقية مع احد نزلاء المستشفى جابر المبتور الساق وهذا البتر الحق به من مخلفات الحرب، واجمل مافي تغيير هذه المشاهد اللاحقة هو الانتقال البسيط وبشكل يشوبه شيئا من الخفة والاسراع بتنفيذ مهمة الانتقال وعن طريق هاتين الممثلتين الرائعتين واللتين رافقناهما في رحلة مسرحية جميلة ومن دون ملل وبمتابعة يشوبها التواصل لاحداث العرض المسرحي في مشهد المحكمة ومن خلالها يطرح (الحربي الكاتب) ماسات النزيل المريض والذي بترت قدمه وبقي مع عكازته متفاجئا بهذا البر، مما جعله يتسائل عن قدمه المبتور والذي نسيه في جبهة القتال وهذا الاخبار جاء عن طريق الممثلة فاطمة الوادي.
مرة اخرى يبرهن الحربي على ذكاء في المعالجة لهذه الانتقالات واستحضار المشاهد والمعبرة عن افكار واحداث جديدة وعن طريق قدرة الممثلتين المتالقتين واللتين يلعبن ادوارهن (الرجالية والنسائية) بشكل ناضج يدل على حرفيتهن، وهذا الاسلوب هو منهج برتولد برشت في استخدام الممثل او الممثلة للتعبير عن افكاره، وكذالك استخدم هذا المنهج في المسرح التعبيري ومسرح الفقير والمسرح الوثائقي والتسجيلي باستثناء المسرح الواقعي، اي المدرسة الواقعية.
يبدأ جبارة بوصف معاناته ومعانات معظم ابناء وطنه وعن طريق ردود افعاله المؤلمة من الحرب وويلاتها (الممثلة فريال الخميس) انما محاولة هذه الممثلة القديرة لم تستطع ان تؤديها بشكل كوميدي بقدر ما طغت روحية الطفولة على حركاتها، حينما تسائلت:
لو ولدتهم امهاتهم على تك رجل لاستطاعوا النجاة من عقوبة المعلم في المدرسة، وهنا يبدأ جبارة (الممثلة فريال الخميس) بعرض معاناته امام الممرضة (فاطمة الوادي) والتي بدورها تلتحم معه بمشهد رومانسي يشوبه شيئا من حرارة العاطفة الجسدية والتي ينتج عن هذه العلاقة الغير الشرعية جريمة تحاكم عليها، وهنا يبدأ دور الشقيق لغسل عاره وكما هي العادة في العرف الاجتماعي وينتهي يتكوين جميل معبرا من خلاله عن العزف على الة الجلو وانما من المؤسف له اننا سمعنا صوت الة الكمان، وهنا يبدأ التسائل عند المرأة عن اسباب حصر المحافظة على صيانة شرف الرجل من قبل المراة في الوقت لا يشمل هذا التحصين للرجال وبحوار جميل ومتناغم: (عفى الله عما سلف) (ومن صوبهم غفور رحيم، ومن صوبنا شديد العقاب).
وتتلاحق المشاهد ومن خلال صوت يبيع الحب والعلج والجكاير مستذكرين الجمبر الذي يحمله الباعة المتجولين لبيع مثل هذه البضائع، الا اننا نتفاجأ بالممثلة (فريال الخميسي) وهي حاملة حقيبة نسائية في يدها بعد ان اعلنت انها تحمل صرة مليئة بالاغراض في حوار (جايبتلج حمر، وجايبتلج مشاطه، وجايبتلج الحنة اللي تحبيها ) وليتنا لو شاهدنا صرة كصرة الدلالات المحترفات بيد عزيزتنا (فريال الخميسي)، وبمحاولة ذكية من الكاتب والمخرج (عباس الحربي) في تناول موضوع عن استيراد الارهاب وتفشي الفساد والرشاوي في الدرجات العليا من الجهاز الامني في مشهد يجسده العريف عواد (فريال الخميس) والملازم ماجد، والذي يرفض الرشوة مؤمنا بان الوطنية لا تقاس بنجمة او بعشرة نجمات، انما يقبلها المرجع الاعلى حينما يوافق على اطلاق الارهابيين لقاء الواحد بعشرة الاف دولار، ويسدل الستار عن مقولة رائعة يختتم بها الحربي (الكاتب) نهاية للعرض المسرحي (لا يوجد مستقبل لهذه الاجيال مادام فيها فساد اداري بهذا الحجم).
الخاتمة
انني ومن خلال هذا المقال، لا اقصد من تقييمي هذا الا الاعجاب بالعرض المسرحي الرائع، والمتمثل في النص المسرحي ولوحاته المتضمنة بالمضامين الفكرية والسياسية والنقدية لتعرية السياسة الخاطئة والمنحرفة عن مسار التغيير والتطوير وتعرية الاوضاع المتهللة في وطن عاث فيه الوصوليين الفساد ومحوا مسيرة تاريخ نضال شعب عرف بمحبته للحرية والسلام وللمحبة والتاخي، وانني في الوقت نفسه اتقدم لمؤسسة افاق للثقافة والفنون والرياضة كل التقدم والازدهار، وعلى طريق العطاء المستمر ضمن مسيرة متلاحمة مع عطاء الفنانين العراقيين والعرب في المهجر، من اجل المواصلة والتواصل مع جذور مسرحنا الرصين والملتزم بالافكار القيمة لخدمة قضايانا الانسانية في الوطن ونحن ابنائه، فنانونا في المهجر لم ولن يتوانون من اجل الحفاظ على قدسية خشبته الطاهرة والمقدسة، وعن القيم المتوارثة من اخلاقية فنانينا الرواد من اساتذتنا الكرام والذين ازدهرت خشبة المسرح العراقي بعطائهم الثر وبازدهار نشاطه في المحافل الوطنية والعربية والدولية والتي نالوا من خلاله حصادا من الجوائز التكريمية والمواقع الاولية على مستوى الحداثة والتطور-- ونحن نتمنى لقاءا اخر انشاء الله مع الفرقة نفسها واعضائها المبدعين من خلال الكوادر التي ساهمت في اخراج هذا العمل الى حيز الوجود، مقرونة بتحيات رئيس التحرير السيدة المتالقة وداد فرحان، ولكم امنيات الكادر الاداري والفني في جريدة بانوراما بالتالق والنجاح والعطاء المثمر، ولنا لقاء اخر انشاء الله مع الفرقة نفسها باعضائها المبدعين ومن خلال الكوادر التي ساهمت في اخراج هذا العمل المسرحي الخط الاحمر الى حيز الوجود.
فاطمة الوادي - ممثلة .
فريال الخميسي- ممثلة .
الفنان المخرج صباح فنجان - الادارة الفنية والموسيقى التصويرية.
الفنان ديفيد- الفنان حافظ الحافظ- الاضاءة المسرحية.
الفنان جوزيف عيسى- الفنان توفيق الموسوي- الادارة.
المؤلف والمخرج لمسرحية الخط الاحمر- الفنان عباس الحربي.
الفنان القدير منير العبيدي- السينوغرافيا المسرحية والاشراف العام.
وفي الختام لكم مني اجمل التحايا..