كثيرا ماكنا نتعرض في مسيرة حياتنا الفنية لمشاكل انتاجية لعروضنا المسرحية، واسبابها، ضعف الامكانيات المادية، والتي لا يمكنها تغطية كلفة الانتاج لعروضنا المسرحية، ونتيجة لهذا يصيبنا الاحباط على ما نحن مقدمين عليه، ورد فعل انعكاسي لحماسنا الذي يبدأ بالتهاوي ويؤدي بنا الى الغاء الكثير من الاعمال المسرحية.
وهكذا الحال كان مع الكثير من هواة المسرح ولا سيما المخرجين المبتدئين في هذه المسيرة، والذين لا يملكون من الخبرة ماتؤهلهم لتقديم اعمال مسرحية ذات مواصفات منها، عدم توفر عناصر ومقومات الانتاج المتكامل، وهذه المشكلة اصابت معظم الهواة، وانماعالجها معظم مخرجينا في بداية مسيرتهم الانتاجية ومن خلال مختبراتهم وتجاربهم الذاتية والفكرية ، فتوصلوا الى نتيجة رائدة بظهور بوادر جميلة كانت السبب في حل الكثير من هذه المعظلات والتي كانت الحجر العائق في تقديم العروض المسرحية، فانبثقت مدارس ذات خصوصية اتسمت بتجربة رائدة من خلال مختبرات الرواد من مؤسسي ظاهرة جميلة اتسمت بالبساطة والجمال في ان واحد وهي مدرسة (المسرح الفقير) وشواهد على صحة هذا، شواهد عديدة من تصريحات الرواد يشرحون من خلالها عن تجارب حقولهم الفنية، ويعرضون نماذج حية لمثل هذا المسرح الوليد والذي اعتمد اسس تجريبية على براعة الممثلين واستغلال مرونة اجسادهم وحلاوة اصواتهم وتالق ابداعاتهم في فن التمثيل، واجادة ادوارهم وهم يجسدونها من على المسرح والذي جعلهم يستغنون عن الكثير من السينوغرافية المسرحية، باستثناء البسيط منها ،والاكتفاء ببعض الرموز من الاكسسوارات المسرحية والملابس البسيطة، والاستغناء على الديكورات الضخمة، وعلى بهرجة الاضاءة ، مما ساعدت على تسهيل مهمة انتقال بعض العروض المسرحيةمن والى اماكن مختلفة لتقديم عروضهم المسرحية.
المهم والاهم في مسرح الفقير
ان من المهمات الاساسية في مسرح الفقير هو الاعتماد والتركيز على الممثل وعدم اعطاء الاولوية والاهتمام للديكور وللاضاءة وللملابس والمكياج (المكياج-- والذي غالبا ماكان اعتماد الممثل على شكله الطبيعي باستثناء بعض الخطوط المرسومة على تجاعيد وجهه لتساعده على لغة التعبير للاحاسيس الداخلية والمشاعر الانسانية التي يجسدها من خلال رد فعله للكلمة المنطوقة في التمثيل).
ان قوة التمثيل والاداء الجيد هما عاملان اسساسيان للسيطرة على مشاعر المتلقي وخلق الاندماج مابين الاثنين (الممثل والمتلقي) في مسرح الفقير هذا الاندماج الذي يساعد الممثل على خلق عالم الوهم وتقريب الصورة الكاملة والموحاة اليه من خلال ادائه وابداعاته، لنقل المتلقي الى الاجواء التي تحيط بالعرض المسرحي من الواقع الوهمي من السينوغرافيا المسرحية ومن دون وجودها على خشبة المسرح.
كان ستانسلافسكي وعبر مختبراته التجريبية يؤكد على اهمية اداء الممثل لدوره (حرفية الممثل في تمثيل الدور) في معايشة الممثل الحقيقية للواقع مستمدا منه تجارب حياتية يختزنها عند الحاجة على خشبة المسرح.
وكذالك اعتمد غروتوفسكي رائد المسرح الفقير على الكلمة وتحرير شحناتها الحسية عند الممثل، وتجسيد فعل الكلمة في التمثيل لتجسيد رد فعل الممثل لتساعد على نمو الشخصية المسرحية وخلق الصراع مابين الشخصية الرئيسية ومابين بقية الشخوص المسرحية والتي تبدأ بالتنامي والتطور للثيمة الاساسية من خلال العرض المسرحي، لخلق اجواء يجسد الممثل من خلالها الخيال والواقع الوهمي الغير المنظور في العرض المسرحي من على خشبة المسرح.
ومن تجاربي في مثل هذه العروض المسرحية (المسرح الفقير) اعتمادي على المسطحات الخشبية (الفلات )ذات الاشكال الهندسية المجسمة مثل (المربع والمستطيل) ووضعها بشكل متناسق لتجسيد جمالية المجاميع وتحريكها على ضوء المساحة الفضائية في خشبة المسرح وكما كانت في مسرحية (الغريب) والتي اخرجتها للمسرح العمالي في العراق، ومسرحية (مارزيا ) لفرقة مسرح كنيسة مارزيا في سدني، ومسرحية (توما الشكوك) لفرقة مسرح كنيسة مارتوما الرسول في سدني، هذه المسطحات الخشبية تساعد على تجسيد جمالية التكوينات الجسدية للممثلين، وتحريكها من والى مختلف المواقع والتي تحتمها جمالية الحركة المسرحية في العرض المسرحي، وغرضي كان من هذه المسطحات الاستغناء عن الديكورات الضخمة والتي كانت قد تكلف الانتاج مبالغ ضخمة، الا انني لم استغني عن الموسيقى والاضاءة والموسيقى التصويرية والملابس والمكياج، بعكس ماكان معمولا به في مسرح الفقير، حيث ان المخرجين في هذا المسرح استعانوا عن الديكور الضخم بديكور بسيط، وعن الموسيقى التصويرية، والتعويض عنها باصوات الممثلين والكورس وبالحان كورالية تعبر عن جمالية المشهد، وتساعد على تجسيد المضمون وايصاله الى المتلقي، وهذا الاسلوب استخدمه بروك في معظم اعماله المسرحية، منتهجا اسلوب سلفه المخرج البولندي غروتوفسكس وعبر تجاربه المختبرية للوصول الى هدفه في استخدام الممثل وادائه الجيد في العرض المسرحي، ليعوض عن الكثير من مستلزمات الاكسسوارات والديكور والاضاءة وغيرها من عوامل ومقومات الانتاج المسرحي ( السينوغرافيا المسرحية ) وقد استخدمها في العراق الاستاذ المخرج المتالق المرحوم جعفر علي في اخراجه لمسرحية بيتر بروك.
الممثل في مسرح غروتوفسكي
لو بحثنا في مسيرة وتجارب غروتوفسكي المسرحية، لوجدنا بانه كان ينتهج اساليب جديدة في تدريب الممثلين، مكرسا جل اهتماماته في الاعداد والتدريب، هدفه من هذا خلق ممثلين يتعاملون مع التجارب الحياتية، معتمدين على احاسيس رد فعل الكلمة المشحونة بالفعل للممثل وعلى رد فعل المتلقي لهذا الفعل، لقد كرس تروتوفسكي وقته على التدريبات العملية المختبرية في تمارينه اليومية مع الممثلين (الذين كانوا مدعومين من قبل الدولة) وبهذا تيسرت الكثير من التطبيقات المختبرية، بحيث تمخضت هذه التمارين والاستنتاجات المختبرية لاعداد الممثل ان يستغني عن الديكور التقليدي، والاكتفاء ببعض المستلزمات والتي قد تساعد الممثل على تفريغ شحناته الفعلية وتجسيدها من خلال جمالية صوته ومرونة جسده، اضافة الى هذا كله كان في عمله هذا، هو تاكيد على المتفرج (المتلقي) ودراسة ردود افعاله الانعكاسية من خلال عرض المشاهد المسرحية والتي كتبت خصيصا لمثل هذا الاسلوب الجديد من تجربة مختبر تروتوفسكي المسرحية والتي فيما بعد سميت هذه التجربة الرائدة بالمسرح الفقير.
مميزات هذا المسرح
دعى تروتوفسكي باسلوبه ومدرسته هذه الرائدة بتجربتها، الى ثورة على المسرح التقليدي، نابذا كل مقومات وعناصر السينوغرافيا المسرحية، اي الاطار التقليدي للعرض المسرحي، لقد قام بثورة على بعض المفاهيم التقليدية للعروض المسرحية والتي كانت سائدة انذاك ، معتبرا بان تعامل المتلقي ليس مع الشكل والاطار المسرحي والذي صنعه الديكورست، ومصمم الاضاءة وواضع الاكسسوارات، بقدر ماكان تعامله مع مصداقية الممثل في التعبير وتجسيده للكلمة لانها الاصل في توصيل المضمون للمتلقي، وفي الوقت نفسه كان يعتبر الكلمة هي وساطة الاتصال بين المجتمع وافراده، ولهذا اعطى جل اهتماماته ل فن التمثيل، بعدما صرح وفي عدة مناسبات ومحافل ثقافية وصحفية، وعن طريق الوسائل الاعلامية، بان دور الفنون المرئية في المسرح (التشكيلية، والزخرفية) ما هي الا حاجة من الاحتياجات الغير الضرورية للعروض المسرحية، بقدر ما اكد اعطاء الاهمية للممثل ولجسده ومرونته، ولجمال الاصوات وقوتها والتي كان يؤديها الممثل من على المسرح، حتى انه استعاض عن المؤثرات الصوتية والموسيقى التصويرية باصوات الممثلين وابداعاتهم في محاكاتهم لهذه المؤثرات الصوتية والموسيقى التصويرية، وقد جاء تاكيد غروتوفسكي على صوت وجسد الممثل معتبرا اياه عمود التواصل مابينه ومابين المتلقي، مما جاء اصراره هذا بوقوفه ضد المسرح المعاصر والمهتم بالديكورات الضخمة والفخمة والتي هدفها هو التسلية لا غير، حيث بدأ بفترة الاصلاح في اساليب العروض المسرحية وبتقنياتها الفنية، مؤكدا على ان الممثل هو العنصر الاساسي لهذا المسرح الجديد والذي سمي-- بمسرح الفقير .