المخرج السينمائي برهان الدين جاسم
الذي يبحث عن تاريخ المسيرة الفنية وماتمخضت عن شخصيات فنية كان لها الاثر في ديمومة هذه المسيرة، فبالرغم من معاناة فنانيها، انما حبهم وايمانهم بالفن جعلتهم يصرون وبكل ثقة ان يواصلون مشوارهم الفني، فاغلبهم ضحوا بلقمة عيشهم وبما لديهم من الاموال والعقارات من اجل مواصلة مسيرتهم بعطاء يوازي تضحياتهم، لقد ترجمت تضحياتهم المفاهيم والقيم الانسانية وافكارهم التقدمية لخدمة الانسان، ان كان عن طريق السينما او المسرح، او الاذاعة والتلفزيون، وبحكم الصداقة التي كانت تربطني مع معظمهم استطعت في وقتها ان اعجب في كيفية اصرارهم على التحدي وعلى كيفية اختراق الحواجز والمعوقات التي كانت تقف امام تحقيق اهدافهم وطموحاتهم المشروعة، منهم:
الفنان المخرج العراقي برهان الدين جاسم، المخرج الذي ضحى بكل مايملك من اجل انجازات فنية سينمائية وارساء البداية لسينما عراقية معتمدة على الامكانيات المادية المحدودة، وعلى المعدات الفنية البسيطة من اجهزة التصوير والصوت والاضاءة البسيطة، والتي لم تكن تفي بطموحاتهم لتساعدهم على تحقيق انجاز افلام عراقية .
كان الفنان المخرج الرائع برهان الدين جاسم يرسم حركة الممثل مراعيا الحركة وانسجامها مع الزاوية التي منها يريد تصوير اللقطة ، كنت اراقبه وهو قصير القامة وضعيف البصروالنظارة الطبية التي كان يضعها على عينيه كانت تسبب له ازعاجا في وقتها حينما كان يتاكد من الكادر من خلال عدسة الكامرة، او انه يحاول وبقصر قامته ان يؤدي حركة للفنانه مديحة وجدي، عبارة عن رقصة يؤديها وفي يده المنديل وعلى ايقاعات اغنية (حبيتك ياشمعه بدربي) وانا في وقتها لم اتمالك نفسي من الضحك على حركته النسائية طالبا من الممثلة مديحة وجدي تقليده، كل هذا كان يحدث في موقع التصوير وعلى حدائق منتزه الاوبرا في الكرادة مقابل المسرح الوطني، كان اسلوبه في الاخراج تقليديا معتمدا على احاسيسه ومشاعره ورؤيته للقطة السينمائية مراعيا في ذالك عنصر الجمال لكل لقطة كان يصورها، لم يكن لديه سيناريو يعتمده في التصوير بقدر ماكانت اجتهاداته الذاتية يعتمدها لترجمة اللقطة التي يصورها (على كولت المثل، يضربها عوجة تطلع عدله) كان يؤمن بالتطور والحداثة، ومتاثرا بالسينما المصرية واسلوب الاخراج وبشكل تقليدي انما لم يخفق في تصوير اية لقطة، ولن يتعاجز عن القيام باصعب المهمات حينما كان يرتمي على الارض ويفترش ترابها لتصوير لقطة ما اثارت اعجابه حيث كان يكلف المصور بالتقاطها بعد ان يحدد له الزاوية التي سيصور منها اللقطة.
كان المخرج برهان الدين جاسم حسن الاخلاق والسيرة، يملك قلبا مليئا بالمحبة للعاملين معه، كان دائما يشيع جوا من الفرحة والفرفشة في موقع التصوير، وموهبة في نظم القصائد الغنائية فلم درب الحب – حضرت موقع تصويره مع الفنان القدير فاروق هلال والفنانه مديحة وجدي كان فيلما استعراضيا يعتمد المخرج على نفسه في كتابة القصة ويجيد ايضا صياغة الحوار الجيد للقصة، ايمانه بالفن وخاصة السينما وتقديسه لها لم تثنيه عن التضحية براتبه الشهري الذي كان يتقاضاه من دائرة البرق والبريد والهاتف المركزي وهو يشغل وظيفة مامور بدالة في البدالة المركزية في شارع الرشيد وفي الشفت الليلي وحتى الصباح، هذا الفنان الذي لعبت الصدفة ان اتعرف عليه وانا زميلا له في العمل، حيث اكتشفت وبالصدفة يوما انه يكلم الفنان المرحوم خليل الرفاعي هاتفيا ليعلمه عن موعد تصوير الفلم الذي يشارك في بطولته مؤكدا على حضوره في الوقت والزمان المحدد، وبعدها اتصل بالفنان الملحن والمطرب احمد الخليل ليتاكد منه عن موعد حجز استوديو اغنية درب الحب والتي كانت من الحانه، كنت اسمع المكالمة وانا لفي اشد اللهفة في الانصات الى حديثهما لاتأكد من ان هذا الجالس بجانبي هو بالحق والحقيقة انه مخرج سينمائي على كولت المثل الشعبي اللي ايكول (ادور عليك بالسما والكاك بالكاع) فبعد ان انهى مكالمته مع الفنان الملحن احمد الخليل خاطبته متسائلا: ابو سمير ، وهذا اسم ابنه الكبير اصحيح انك مخرجا سينمائيا؟
فاجابني بابتسامته المتواضعه، نعم، فقلت له: ولكنني لم اجد فيك مايدل على انك فنانا سينمائيا، فاستغرب قائلا وهو في اشد العجب والاندهاش، وهل على رأس المخرج السينمائي ريشه؟ فاستدركته قائلا: كلا انما ما شاهدته في الافلام ان المخرجين تشوب حركاتهم شيئا من التصنع والكبرياء، وهيئته الخارجية فيها مسحة تختلف عن بقية الاخرين مثلا يطلقون العنان لسكسوكة في حنكه، وزلف عريض وطويل، ونظارات ذات قيطانين متدليتين من خلف الرقبه، ومسحة التعالي والكبرياء تشوب حركاتهم، ومن ثم انفعالاتهم الغير المبررة ليعلنوا عن انفسهم انهم مخرجون، فلا تستغرب، اما انت، فانا لم اجد هذه المواصفات البالية فيك بقدر ماوجدت فيك التواضع والاخلاق الرفيعة وعفة النفس، فأجابني وعلى الفور، صدك بالمناسبه، عندك ربع دينار قرضة على ماناخذ الراتب راس الشهر؟
فخجلت لطلبه واخبرته ليس في جيبي سوى 150 فلسا، فاجاب وعلى الفور: (هم ميخالف، بيها لفة بيتنجان وصمونه وعنبه، ومصرف جيب).
فأدهشني حاله، واخذني التفكير باحوال هؤلاء الذين يضحون من اجل مسيرة لا يجنون منها شيئا سوى ان حبهم للفن وخدمة رسالته السامية وخدمة هذه الجماهير المتعطشة لرؤية سينما عراقية متطورة تصل الى رقي ماوصلت عليه السينما المصرية، في الوقت الذي لا يجدون مايقتاتون به لقمة عيشهم.
المطرب العراقي سعيد العجلاوي.
هذا المطرب الفطري كان يمتهن حرفة الخياطة للرجال، والذي اتخذ لنفسه اسلوبا في الغناء تميز به عن اقرانه من المطربين، لم يكن معروفا ولا مشهورا الا بعد ان شارك في برنامج ركن الهواة والذي كان يعده ويقدمه الفنان الراحل المخرج التلفزيوني كمال عاكف حيث شارك في اغنية نالت استحسان المشاهدين والمعنيين بالموسيقى العراقية بأغنية (سمرة يابنت البادية) والتي سحرت المشاهدين واعجب بادائه وبصوته الفنان احمد الخليل والذي دعمه وشجعه على الاستمرار في الغناء وفي الوقت نفسه كان خياطا للرجال في محل قرب سينما سميراميس في بغداد، والذي اصبح فيما بعد ملتقى جميع الفنانين من المطربين والملحنين، هذا التجمع الفني خلق من سعيد العجلاوي فنانا واعدا بفنه نال شهرة ومن خلال العديد من الاغاني الجميلة والتي سحرت الشاشة الصغيرة ومشاهديها بالحان راقية وشعبية نابعة من الاصالة العراقية استحسنها الجمهور في وقتها ومنها:
اولا – فتانه عيونج فتانه
ثانيا – سمره يابنت البادية.
ثالثا – عشاك عشاك يابويه عشاك.
رابعا – نار الهوى حراكة.
خامسا – سهران طول الليل.
لقد احتضنت بغداد يوم ميلاده صوت طفلا يصرخ ويبكي بصوت طفولي لم يكن يعلم من سمع صراخه وهو يبكي ان هذا الصوت سيكون يوما ما علما من اعلام الاغنية العراقية الاصيلة والتي بقيت اصداء اغانيه ترددها الاجيال من بعده، حيث ازداد عدد المعجبين باسلوب ادائه وطبيعة حنجرته التي سحر من خلالها العديد من المعجبين مما اظطرته الظروف ومن خلال تشجيع محبيه ان يعمل في الملاهي الليلية والاشتراك في الافلام السينمائية العراقية ومن جملة هذه الافلام فيلم درب الحب، والعجيب من انه لم يدرس فن اصول الغناء وتثقف على الثقافة الموسيقية الا انه كان متمكن فنيا، بحيث كانت جميع اغانيه من الحانه ولاسيما منها:
اولا – على عيني ياالبنية.
ثانيا – عيني سلملي على البنية.
ثالثا – مندل دلوني درب المحطة منين .
لا يخفى عليكم من انني كنت من اشد المعجبين بصوته وبالحانه مما دفعني هذا الاعجاب الى بث اغنياته في معظم برامجي الاذاعية في اذاعة بغداد.
ان هذا الفنان الرائد والذي ساهم في تقديم لونا من الالوان الغنائية العراقية اصيب بالعمى في منتصف التسعينات وانتهت مسيرته الخالدة ومن دون ان تلتفت له المؤسسات الاعلامية ولا الحكومة العراقية حاله حال الكثير من رواد الاغنية العراقية ومطربي الستينيات والسبعينيات:
من امثال المطرب ناظم الغزالي والمطرب رضا علي واحمد الخليل ومن المطربات سليمة باشا (سليمة مراد زوجة الفنان الراحل المطرب ناظم الغزالي) وغيرهم ممن عبدوا طريق مسيرتهم بفن اصيل مساهمين في تطوير الاغنية العراقية، هؤلاء الفنانين من فنانينا المبدعين والمتالقين والذين عاشوا مرارة الحياة وقساوة العيش في مجتمع لم ينظر الى الفن الا نظرة متدنية والكثير من هؤلاء المبدعين الذين احترفوا الفن ولا سيما التمثيل كانوا لا يجدون لقمة العيش سوى، لفة البيتنجان - وصمونه وعنبه - ومصرف جيب.
مع تحياتي.
الرؤية المستقبلية للمسرح العراقي والعربي
لو عدنا و تاملنا المتغيرات التي طرأت على مسيرة العديد من مسارح العالم , اي لو حاولنا مراجعة تجارب المسرحيين ومسيرتهم الفنية , لعلمنا ان هناك العديد من المتغيرات الحاصلة على حياة شعوبهم ومجتمعاتهم والتي ادت الى هدم البنية التحتية والتاخر الثقافي والعلمي والتي خلفتها الحروب من الدمار والخراب , حيث دمرت كل بناء ثقافي وحضاري بناها ذالك المجتمع , سيماوان الحياة الاجتماعية وكما نعلم ان لها علاقة مباشرة بالاستقرار , وهذا الاستقرار الذي يتمتع به اي مجتمع له علاقة مباشرة بالحياة الدينية والسياسية والاقتصادية , وبموجب هذه المؤثرات تتفاعل مقومات وعناصر الحياة الثقافية بين ابناء المجتمع الواحد , ومن هنا تبدأ مرحلة جديدة في البناء الثقافي والاقتصادي والفني والعلمي , فالحروب والويلات والماسي والنكبات هي عدوة لاستقرار اي مجتمع يتطلع الى بناءحياته , والصراع من اجل البقاء , وهذا البقاء لا يمكن ان يتطلع اليه افراد المجتمع ان لم يكن فيه شيئا من الطموح لاجل اسعاد افراد المجتمع وتقويم البنية التحتية على اسس علمية ثابتة ونظرية تنتج عن افتراضيات اصحابها نتائج ايجابية هي في الوقت نفسه نتائج تجاربهم والتي يبنون عليها نظرياتهم من اجل البرهنة على انها نتائج تؤدي بهم الى الاستقرار والسلام يعتمدها المجتمع لتعزيز استقراره من بناء الحياة المستقبلية .
فلو بحثنا في ماضي هذه الشعوب وتمعنا في مجمل الحياة الثقافية ماقبل وقوع الويلات والكوارث على مجتمعهم , مقارنين اوضاعهم اللاحقة من تاريخ حياتهم ,لشاهدنا ان هناك مقارنات مابين الماضي والحاضر تتاثر وبموجب الاحداث الطارئة التي تطرأ على حياتهم الاجتماعية واليومية والتي تدفع بالفرد الى ان يفكر تفكيرا فرديا للمحاولة في معالجة الامور بشتى السبل ولا سيما الحياة السياسية والمرتبطة بالحياة الثقافية والاقتصادية .
الظروف المتدهوره التي لاحقت العراق وشعبه في ظروف حياته السياسية والاقتصادية وتاثيرات هذه الظروف على الحركة الثقافية والفنية وبناء البنية التحتية للشعب العراقي
لنتناول مرحلة الحرب العراقية الايرانية , وندع ظروف الانقلابات العسكرية التي مرت على العراق ماقبل هذه الحرب , وكذالك ظروف تحركات الجيش العراقي في شمال الوطن وانشغاله في معارك ضد رغبة الشعب الكردي في استقلالية ادارة شؤونه في ظل مركزية الحكومة العراقية في بغداد , هذه الظروف المأساوية كان لها الاثر السلبي على تقدم النهضة الاقتصادية والسياسية والثقافية والفنية بالذات , حيث تمخضت هذه الظروف , عن عدم استقرار اقتصادي جيد , وسوء مسيرة الحياة الثقافية والعلمية والفنية وسبل تطورها مما ادت ايضا الى حالات تعيسة مأساوية كانت السبب في عدم استقرار حياة الشعب اليومية ولا سيما في بغداد وبقية محافظات القطر , هذه الظروف ادت الى رداءة الاوضاع الاقتصادية من تدهور اوضاع الشركات وتوقف المصانع الانتاجية , وتدهور الاوضاع الصحية من نقص الدواء وسوء معاملة المرضى في داخل المستشفيات الحكومية , اضافة الى هدر الاموال وعائدات النفط على التسلح والاسراف في تكاليف التصنيع العسكري مما ادت هذه الحالة الى تدهور الاوضاع الاقتصادية وسوء احوال الشعب المعاشية وصعوبة حصوله على الغذاء والادوية اللازمة مما اثرت هذه الاوضاع على حالة بعض المثقفين من اصحابي الكفاءات الثقافية والعلمية , مما دفعتهم الى الهجرة خارج الوطن , اضافة الى هذا ان جميع هذه النتائج السلبية من الاوضاع السياسية والاقتصادية ادت الى ظهور تيارين من الانشطة الفنية , التيار العلني والذي يمثل شريحة من النفوس الضعيفة كرست الفن لمصالحها الخاصة , حيث ظهرت هذه الفئة من المحسوبين على الفن وعملت على تشجبع المسرح التجاري , هذا المسرح المبتذل والغير الملتزم بقضايا الجماهير ,والذي ساعدعلى ظهور حركة من كتاب النصوص المسرحية تضمنت انتاجاتهم من السفاسف والظواهر المبتذلة من الغناء الرخيص واستعراض الرقصات ذات الارداف المليئة والدسمة , والسيقان العارية وهز الاكتاف على صوت الايقاعات المليئة من الصخب والضوضاء وخالية من الذوق والحس الفني , كان الهدف من هذه العروض جني الاموال من شباك التذاكر , ولهذا سمي هذا المسرح بالمسرح التجاري , والذي اقتصرت عروضه على الهزل الرخيص واستجداء الضحك من الجمهورمن خلال حركات ليس فيها شيئا من جمال العرض ولا هي تتبع لمقومات وعناصر العرض الاكاديمي للمسرح .
ومن خلال هذه الظروف القاسية جائت نتائجها وخيمة دمرت كل مابناه الرواد من نشطاء الحركة الثقافية والفنية , هذه الظاهرة ادت الى تاخير تطور مجتمعنا وكذالك الى حالة من حالات الانحطاط في البنية التحتية وتدهور في الحياة الاقتصادية والثقافية وركود في الحياة السياسية , وشمل هذا التاثير حياة بعض المثقفين مما اثرت على حالتهم النفسية والفكرية وردود افعال انعكاسية بانبثاق وجهات نظر نسبية لكل فرد من هؤلاء المثقفين وبقدر تاثراتهم بالاوضاع الجديدة وما تمخضت عنها من ردود افعال انعكاسية , ونظرة كل منهم الى الواقع الجديد مابعد الحرب ومقارنتها مع الماضي , اي مع ماقبل الحرب , وقد يصل به في معظم الاحيان الى حد اليأس لتؤثر على حجم اندفاعه ورغبته في عملية التغيير والتطوير حينما ينصدم بالواقع المرير التي خلفته هذه الحروب .
ولهذا ومن خلال هذا التاثر بالاوضاع الجديدة والتي لا يتمناها اي انسان , انولدت لديه رغبة بالانكماش والتعقيد , وعلى ضوء هذه المستجدات نجد ان هناك بالمقابل نموا لحركة ثقافية وفنية تتسم بالتمرد والثورة على الاوضاع الجديدة والمتاثرة بويلات الحرب والدمار .
وحتما على ضوء هذه الاوضاع الجديدة والمتردية , وعلى ضوء الامكانيات البسيطة المتوفرة بين ايديهم قد لا تساعدهم على محاولة البناء من جديد وعلى ضوء الاحوال المتدنية والتي اصابت المجتمع ,ولان تفاصيل الحياة الاجتماعية منها الثقافية والسياسية والدينية والاقتصادية تاثرت بهذه الاحداث ومن هنا بدأت معانات هؤلاء المثقفين والفنانين ولاسيما من الشباب والذين انصب هدفهم على انقاذ ماتبقى من اثار الماضي من الرقي والحياة الثقافية , الا ان هذا لم يجدي نفعا وعلى المدى القصير بسبب المعالجات اللاحقة كانت تجربتها فقيرة ومعتمدة على الامكانيات البسيطة , لخلو هذه المرحلة من اصحابي العقول والافكار المتالقة والمبدعة والتي ساهمت في عملية بناء المرحلة السابقة ولاسباب منها : هجرتهم الى خارج اوطانهم , وبهذا التهجير قطعت اوصال جذور امتدت من تاريخ عريق اعتمد التجربة الناضجة والتي كانت مبنية على اختبارات ذاتية وثقافة عالية اكتسبها المعنيون بالفنون المسرحية من كتاب ومخرجين ومن خلال تجربة اغنت هذه المسيرة بنشاط متطورمبني على الامكانيات من التكنيك الراقي والثقافة التي مكنتهم من تقديم اعمال مسرحية ابهرت جمهورها ومثقفيها قبل امتداد الية الحرب وكوارثها من الدمار لتؤثر على استمرار نشاطهم وعطائهم .
فهؤلاء المثقفون وبعض الكتاب المسرحيون الذين عاشوا ويلات الحرب وماسيها اصابهم شيئا من التمرد على الواقع الاليم وكما حصل في فرنسا من القرن العشرين وتمخضات المثقفين من المعنيين بالمسرح من الكتاب والمخرجين , وما الت عليهم حالتهم النفسية من تمخضات حالة التمرد والعبث , وبالذات في عام 1953 عندما ظهرت الى الوجود انتاجات مسرحية اتسمت بالغموض من حيث انتقاء الافكاروكيفية معالجة الاوضاع الاجتماعية والسياسية الراهنة انذاك وباسلوب اتسم بالرمزية المبهمة والغامضة والتي اوقعت النقاد والمثقفين والباحثين في حيرة عن هذه الاساليب الجديدة في الكتابة ولا سيما الكاتب صموئيل بيكت الفرنسي الجنسية والايرلندي الاصل , حينما شرع بكتابة مسرحية ( في انتظار غودو ) كانت تاثيرات المرحلة الراهنة التي عاشها تجذرت عن احاسيس قسوة تلك الظروف المؤلمة وباسلوب رمزي شابه شيئا من الغموض مما حيرت المثقفين في وقتها والتي صعب عليهم حل لغز رمزية العمل وما اراد ان يقوله صاموئيل من خلال هذا النص , انما ومع المزيد من الاسف غاب المضمون الحقيقي للنص والذي كان يعنيه بيكت , واصبحت الاجتهادات اللاحقة هي التي كانت تتشفع لفضول بعض النقاد والباحثين لاكتشاف المعنى الحقيقي للنص , انما الحقيقة هوصعوبة اكتشاف هذا الرمزالمبهم , بحيث بقي هذا الرمز يعبث في عقول النقاد والمثقفين ومن دون الوصول الى الفكرة الاساسية التي بنى عليها صاموئيل بيكت احداثها بالتفاصيل التي سماها النقاد بانها تفاصيل غامضة ورمزا لا يفهم معناه الا كاتبه .
ولهذا حينما نستعرض انتاجات كتاب نصوص مسرحنا في العراق وضمن مسيرة التالق والابداع ماقبل الحرب ,نلمس ان هناك تطورا ملموسا وتقدما بالافكار والثقافة العالية التي اتسمت بها نصوص كبار كتابنا العراقيين من امثال ادمون صبري وعادل كاظم وطه سالم وعبد الوهاب الدايني , هؤلاء هم الكتاب الذين عاشوا قساوة تلك الظروف , مابين عهد قيد احلامهم بمحدودية نشر ارائهم وافكارهم ونظرتهم التقدمية في معالجة الاوضاع القائمة انذاك , مما اظطرهم هذا الواقع للتعبير عن مضامين كتاباتهم برموز لربما كانت مبهمة على البسطاء من الناس , وحتى على منتسبي الرقابة في الاعلام والذي لا ينفك من حذف الحوارات والديلوجات والتي يجد فيها خطورة على تحريك الجو العام السياسي والذي يؤدي الى التعبئة الجماهيرية ضد الاوضاع القائمة انذاك , وعلى الرغم من خطورة اعمالهم ولربما كانت هذه الاعمال تؤدي بهم الى السجون والمعتقلات , انما لم تهابهم هذه السجون ولا المعتقلات بقدر ماكان هدفهم هو توعية الجماهير وتحريضهم بالثورة على تلك الاوضاع الرديئة من مراحل الحياة الاجتماعية في العراق وكثيرة هي الاعمال التحريضية والتعبوية منها : الحصار ل عادل كاظم , وعرضت من على خشبة المسرح القومي في كرادة مريم ومن اخراج بدري حسون فريد , ومسرحية عدو الشعب لابسن : وعرضت على قاعة الفنون الجميلة في بغداد ومن اخراج بدري حسون فريد , ومسرحية ايام العطالة من تاليف ادمون صبري واخراج جوزيف الفارس وعرضت من على خشبة المسرح القومي في بغداد , ومسرحية خان جغان , من تاليف واخراج جوزيف الفارس وعرضت من على المسرح القومي في بغداد , نحن لا ننفي ان هناك بعض الاختلافات مابين واقع الحياة الاجتماعية في العراق وفي الوطن العربي , فيما اذا قورنت هذه الحياة مع المجتمع الاوربي من حيث الظروف السياسية والثقافية والاجتماعية , فهناك اختلاف كبير في العادات والتقاليد والتي تختلف كل الاختلاف مابين هاذين المجتمعين العراقي و العربي والاوربي , اضافة الى اختلاف امكانية الكتاب للنصوص المسرحية وملكتهم الثقافية العليا وتاثراتهم بالافكار اليسارية وبالعديد من التيارات الفكرية المتقدمة في مجتمعاتهم , فلو تناولنا سيرة كتاب العالم الغربي ونظرتهم الى الحياة واجواء طبيعتها التي يعيشونها لوجدنا ان هناك اختلاف في طبيعة الانظمة والقوانين وحتى العادات والتقاليد لها تاثيراتها على نمط كيفية معالجتها وفق رؤية كل كاتب ومدى تاثيراته على الواقع الذي يعيشه , وتاثيرات الواقع الذي يعيش فيه على حياته .
لقد تاثر الكاتب العراقي بالثقافة الغربية ولاسيما بكتاب المسرح العالمي واطلع على احدث انتاجاتهم الادبية وتاثر بها , اضافة ان هذا التاثير جاء عن طريق الاساتذة الرواد في مرحلة دراستهم وزمالتهم الدراسية في امريكا والمانيا وفرنسا وروسيا , حينما اطلعوا على احدث انتاجاتهم الادبية واعجبوا بافكارهم واساليب طرحها فجائت محاولتهم بعد عودتهم الى العراق باعداد معظم هذه النصوص وتعريقها ومن ثم تقديمها للجمهور حيث كان الرائد في هذه المحاولة الاستاذ المخرج المرحوم قاسم محمد , وانما هذه المحاولة سبقتها محاولات قديمة ابان بداية نشوء محاولات في الاعداد والتعريق في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين في مدينة الموصل ومحاولة كانت من مثقفي تلك الحقبة الزمنية من تاريخ العراق ومنهم نعوم فتح الله السحار , والاب سليمان الصائغ , حيث مزجت انتاجاتهم المسرحية بين الاعداد والتعريق بعد ان تم ترجمتها من الفرنسية الى العربية ومن ثم اعدت وعرقت وتم تقديمها الى جمهور ابناء الموصل ( لن اتطرق الى دور العثمانيين ابان الاحتلال العثماني وتاثيراتهم على نشوء حركة مسرحية في العراق , وكذالك دور الانكليز وتاثيرات ثقافتهم المسرحية على نشوء حركة مسرحية في العراق ,لئلا ابتعد عن صلب الموضوع الرئيسي ) .
وعلى ضوء هذه المستجدات والتي تاثرت بها حركة المسرح في العراق , اخذ منحا جديدا في الحداثة والتطوير معتمدا على الاساتذة المثقفين والذين اكتسبوا خبرة وثقافة وتجربة متاثرين بما تعلموه في مرحلة دراستهم , وهكذا بدات مرحلة جديدة ودماء متدفقة في عروق الثقافة المسرحية واساليب طروحاتها بتقنية عالية مما حدا بالكثيرين ممن لم يطيقوا رؤية هذا التطور فاطلقوا اقوالا شائنة بحق المخرجين الجدد قائلين ( راحو اتسوكوا ورجعوا ) ومع الاسف من هذه الحالة الغير اللائقة من بعض اصحابي النفوس الضعيفة , الا ان حركة المسرح العراقي وبالرغم من وجود بعض الحواجز والمعوقات , بدأت بالانتعاش والتطور بعد عودة ابراهيم جلال وبهنام ميخائيل وجعفر السعدي وحميد محمد جواد وبدري حسون فريد وسامي عبد الحميد وجاسم العبودي وجعفر علي ومحسن العزاوي وقاسم محمد وعوني كرومي وهذا الاخير رحمه الله لم ياخذ نصيبه من الرعاية الحكومية مما دعته هذه الحالة الى السفر الى عمان وعين استاذا في جامعاتها , ومن ثم عاد الى المانيا ليتم تعيينه في الاكاديمية للفنون الجميلة وبقي هناك مهجرا الى ان وافاه الاجل المحتوم وتوفي في الغربة غريبا عن ابناء وطنه ووطنه العراق .
بعد هذا الاستعراض لمسيرة المسرح العراقي ماقبل الحرب العراقية الايرانية , انما ومع المزيد من الاسف , تاثرت هذه المرحلة ما بعد الحرب , الغير الطبيعية , على الحياة الامنية والاقتصادية وحتى الثقافية والفنية , وتاثيرات هذه المرحلة السلبية شملت الحالة النفسية للفنان العراقي , والتي تاثرت بويلات هذا الحرب فانكمشت نفوس الرواد من فنانينا المسرحيين للاسباب المذكورة , وبهذا دخلت مسيرة المسرح العراقي في نفق اظلم ودهليز لا يساعد الفنان على المساهمة في بناء مادمرته الحرب للاسباب المذكورة في بداية هذا المقال , ولهذا ولعدة اسباب ايضا شخصت في بداية هذا المقال , يتطلب من الفنانين الشباب المثقف والاكادبيمين من خريجي هذه المرحلة من مرحلة مسيرة المسرح العراقي , ان يقتحموا كل الحواجز وبالرغم من صعوبة هذا الاقتحام , واسباب صعوبة هذا عدة عوامل لا تساعد على هذ الاقتحام من اجل انعاش الحركة المسرجية في العراق في الوقت الحاضر ومنها الحالة الامنية والظرف الاقتصادي الرديىء لابناء شعبنا العراقي , وانشغال المثقفين والفنانين مع هذا الشعب في قيادة التظاهرات الاحتجاجية من اجل التغيير والثورة على الحالة والاوضاع المتردية , كل هذا , لا تساعد على احتضان المواهب وتشجيع الطاقات الشبابية , وتقديم العروض المسرحية الجادة وللاسباب التي ذكرت , ولهذه الاسباب ولتشابه الظروف الداخلية والخارجية في الوطن العربي , تاثر المسرح العربي ايضا بهذه الظروف المتشابهة وهو يعيش ويلات الحرب , ولاسيما في سوريا ولبنان واليمن ومصر , ونحن على يقين بان هذه الظروف هي لا تشجع على النهوض بمسيرة جديدة
فيها من التالق والابداع كما كانت عليه ماقبل الحرب --- الا بمعجزة غير اعتيادية .