فهؤلاء المثقفون وبعض الكتاب المسرحيون الذين عاشوا ويلات الحرب وماسيها اصابهم شيئا من التمرد على الواقع الاليم وكما حصل في فرنسا من القرن العشرين وتمخضات المثقفين من المعنيين بالمسرح من الكتاب والمخرجين، وما الت عليهم حالتهم النفسية من تمخضات حالة التمرد والعبث، وبالذات في عام 1953 عندما ظهرت الى الوجود انتاجات مسرحية اتسمت بالغموض من حيث انتقاء الافكار وكيفية معالجة الاوضاع الاجتماعية والسياسية الراهنة انذاك وباسلوب اتسم بالرمزية المبهمة والغامضة والتي اوقعت النقاد والمثقفين والباحثين في حيرة عن هذه الاساليب الجديدة في الكتابة ولا سيما الكاتب صموئيل بيكت الفرنسي الجنسية والايرلندي الاصل، حينما شرع بكتابة مسرحية (في انتظار غودو) كانت تاثيرات المرحلة الراهنة التي عاشها تجذرت عن احاسيس قسوة تلك الظروف المؤلمة وباسلوب رمزي شابه شيئا من الغموض مما حيرت المثقفين في وقتها والتي صعب عليهم حل لغز رمزية العمل وما اراد ان يقوله صاموئيل من خلال هذا النص، انما ومع المزيد من الاسف غاب المضمون الحقيقي للنص والذي كان يعنيه بيكت، واصبحت الاجتهادات اللاحقة هي التي كانت تتشفع لفضول بعض النقاد والباحثين لاكتشاف المعنى الحقيقي للنص، انما الحقيقة هوصعوبة اكتشاف هذا الرمز المبهم، بحيث بقي هذا الرمز يعبث في عقول النقاد والمثقفين ومن دون الوصول الى الفكرة الاساسية التي بنى عليها صاموئيل بيكت احداثها بالتفاصيل التي سماها النقاد بانها تفاصيل غامضة ورمزا لا يفهم معناه الا كاتبه.
ولهذا حينما نستعرض انتاجات كتاب نصوص مسرحنا في العراق وضمن مسيرة التالق والابداع ماقبل الحرب، نلمس ان هناك تطورا ملموسا وتقدما بالافكار والثقافة العالية التي اتسمت بها نصوص كبار كتابنا العراقيين من امثال ادمون صبري وعادل كاظم وطه سالم وعبد الوهاب الدايني، هؤلاء هم الكتاب الذين عاشوا قساوة تلك الظروف، مابين عهد قيد احلامهم بمحدودية نشر ارائهم وافكارهم ونظرتهم التقدمية في معالجة الاوضاع القائمة انذاك، مما اظطرهم هذا الواقع للتعبير عن مضامين كتاباتهم برموز لربما كانت مبهمة على البسطاء من الناس، وحتى على منتسبي الرقابة في الاعلام والذي لا ينفك من حذف الحوارات والديلوجات والتي يجد فيها خطورة على تحريك الجو العام السياسي والذي يؤدي الى التعبئة الجماهيرية ضد الاوضاع القائمة انذاك، وعلى الرغم من خطورة اعمالهم ولربما كانت هذه الاعمال تؤدي بهم الى السجون والمعتقلات، انما لم تهابهم هذه السجون ولا المعتقلات بقدر ماكان هدفهم هو توعية الجماهير وتحريضهم بالثورة على تلك الاوضاع الرديئة من مراحل الحياة الاجتماعية في العراق وكثيرة هي الاعمال التحريضية والتعبوية منها: الحصار ل عادل كاظم، وعرضت من على خشبة المسرح القومي في كرادة مريم ومن اخراج بدري حسون فريد.
ومسرحية عدو الشعب لابسن: وعرضت على قاعة الفنون الجميلة في بغداد ومن اخراج بدري حسون فريد.
ومسرحية ايام العطالة من تاليف ادمون صبري واخراج جوزيف الفارس وعرضت من على خشبة المسرح القومي في بغداد.
ومسرحية خان جغان، من تاليف واخراج جوزيف الفارس وعرضت من على المسرح القومي في بغداد.
نحن لا ننفي ان هناك بعض الاختلافات مابين واقع الحياة الاجتماعية في العراق وفي الوطن العربي، فيما اذا قورنت هذه الحياة مع المجتمع الاوربي من حيث الظروف السياسية والثقافية والاجتماعية.
فهناك اختلاف كبير في العادات والتقاليد والتي تختلف كل الاختلاف مابين هاذين المجتمعين العراقي والعربي والاوربي.
اضافة الى اختلاف امكانية الكتاب للنصوص المسرحية وملكتهم الثقافية العليا وتاثراتهم بالافكار اليسارية وبالعديد من التيارات الفكرية المتقدمة في مجتمعاتهم.
فلو تناولنا سيرة كتاب العالم الغربي ونظرتهم الى الحياة واجواء طبيعتها التي يعيشونها لوجدنا ان هناك اختلاف في طبيعة الانظمة والقوانين وحتى العادات والتقاليد لها تاثيراتها على نمط كيفية معالجتها وفق رؤية كل كاتب ومدى تاثيراته على الواقع الذي يعيشه، وتاثيرات الواقع الذي يعيش فيه على حياته.
لقد تاثر الكاتب العراقي بالثقافة الغربية ولاسيما بكتاب المسرح العالمي واطلع على احدث انتاجاتهم الادبية وتاثر بها.
اضافة ان هذا التاثير جاء عن طريق الاساتذة الرواد في مرحلة دراستهم وزمالتهم الدراسية في امريكا والمانيا وفرنسا وروسيا، حينما اطلعوا على احدث انتاجاتهم الادبية واعجبوا بافكارهم واساليب طرحها فجائت محاولتهم بعد عودتهم الى العراق باعداد معظم هذه النصوص وتعريقها ومن ثم تقديمها للجمهور حيث كان الرائد في هذه المحاولة الاستاذ المخرج المرحوم قاسم محمد، وانما هذه المحاولة سبقتها محاولات قديمة ابان بداية نشوء محاولات في الاعداد والتعريق في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين في مدينة الموصل ومحاولة كانت من مثقفي تلك الحقبة الزمنية من تاريخ العراق ومنهم نعوم فتح الله السحار، والاب سليمان الصائغ، حيث مزجت انتاجاتهم المسرحية بين الاعداد والتعريق بعد ان تم ترجمتها من الفرنسية الى العربية ومن ثم اعدت وعرقت وتم تقديمها الى جمهور ابناء الموصل (لن اتطرق الى دور العثمانيين ابان الاحتلال العثماني وتاثيراتهم على نشوء حركة مسرحية في العراق، وكذالك دور الانكليز وتاثيرات ثقافتهم المسرحية على نشوء حركة مسرحية في العراق ،لئلا ابتعد عن صلب الموضوع الرئيسي).
وعلى ضوء هذه المستجدات والتي تاثرت بها حركة المسرح في العراق، اخذ منحا جديدا في الحداثة والتطوير معتمدا على الاساتذة المثقفين والذين اكتسبوا خبرة وثقافة وتجربة متاثرين بما تعلموه في مرحلة دراستهم.
وهكذا بدات مرحلة جديدة ودماء متدفقة في عروق الثقافة المسرحية واساليب طروحاتها بتقنية عالية مما حدا بالكثيرين ممن لم يطيقوا رؤية هذا التطور فاطلقوا اقوالا شائنة بحق المخرجين الجدد قائلين (راحو اتسوكوا ورجعوا) ومع الاسف من هذه الحالة الغير اللائقة من بعض اصحابي النفوس الضعيفة، الا ان حركة المسرح العراقي وبالرغم من وجود بعض الحواجز والمعوقات، بدأت بالانتعاش والتطور بعد عودة ابراهيم جلال وبهنام ميخائيل وجعفر السعدي وحميد محمد جواد وبدري حسون فريد وسامي عبد الحميد وجاسم العبودي وجعفر علي ومحسن العزاوي وقاسم محمد وعوني كرومي وهذا الاخير رحمه الله لم ياخذ نصيبه من الرعاية الحكومية مما دعته هذه الحالة الى السفر الى عمان وعين استاذا في جامعاتها، ومن ثم عاد الى المانيا ليتم تعيينه في الاكاديمية للفنون الجميلة وبقي هناك مهجرا الى ان وافاه الاجل المحتوم وتوفي في الغربة غريبا عن ابناء وطنه ووطنه العراق.
بعد هذا الاستعراض لمسيرة المسرح العراقي ماقبل الحرب العراقية الايرانية، انما ومع المزيد من الاسف، تاثرت هذه المرحلة ما بعد الحرب، الغير الطبيعية، على الحياة الامنية والاقتصادية وحتى الثقافية والفنية، وتاثيرات هذه المرحلة السلبية شملت الحالة النفسية للفنان العراقي، والتي تاثرت بويلات هذا الحرب فانكمشت نفوس الرواد من فنانينا المسرحيين للاسباب المذكورة، وبهذا دخلت مسيرة المسرح العراقي في نفق اظلم ودهليز لا يساعد الفنان على المساهمة في بناء مادمرته الحرب للاسباب المذكورة في بداية هذا المقال، ولهذا ولعدة اسباب ايضا شخصت في بداية هذا المقال، يتطلب من الفنانين الشباب المثقف والاكادبيمين من خريجي هذه المرحلة من مرحلة مسيرة المسرح العراقي، ان يقتحموا كل الحواجز وبالرغم من صعوبة هذا الاقتحام، واسباب صعوبة هذا عدة عوامل لا تساعد على هذ الاقتحام من اجل انعاش الحركة المسرجية في العراق في الوقت الحاضر ومنها الحالة الامنية والظرف الاقتصادي الرديىء لابناء شعبنا العراقي، وانشغال المثقفين والفنانين مع هذا الشعب في قيادة التظاهرات الاحتجاجية من اجل التغيير والثورة على الحالة والاوضاع المتردية، كل هذا، لا تساعد على احتضان المواهب وتشجيع الطاقات الشبابية، وتقديم العروض المسرحية الجادة وللاسباب التي ذكرت، ولهذه الاسباب ولتشابه الظروف الداخلية والخارجية في الوطن العربي، تاثر المسرح العربي ايضا بهذه الظروف المتشابهة وهو يعيش ويلات الحرب، ولاسيما في سوريا ولبنان واليمن ومصر، ونحن على يقين بان هذه الظروف هي لا تشجع على النهوض بمسيرة جديدة فيها من التالق والابداع كما كانت عليه ماقبل الحرب-- الا بمعجزة غير اعتيادية.