المرحلة الثالثة (1942 - 1947)
الحلقة الثالثة
لقد هزَّت هذه الفاجعة المريعة الوضع النفسي وأعصاب يهود العراق ووضعتهم جميعاً أمام محنة جديدة ذات أبعاد خطيرة، وأمام سؤال صعب هو، وماذا بعد هذه الأحداث؟
لقد كانا يومان بشعان أتيا على علاقة اجتماعية وإنسانية مديدة، رغم مرورها بمصاعب ومشكلات وتجاوزات جمة على مدى تاريخ العراق منذ وصول اليهود الأسرى إلى بلاد ما بين النهرين مروراً بالدولة الفرثية والساسانية ودخول الإسلام إل هذه البلاد وفي الإمبراطوريات الأموية والعباسية والدويلات التي نشأت قبل نشوء الإمبراطورية العثمانية والدولة الفارسية في فترة حكم الصفويين، إلى احتلال العراق من قبل البريطانيين وقيام الدولة العراقية الملكية.
لقد أحس اليهود بأن حياتهم بالعراق ستواجه المزيد من المصاعب والانتهاكات.
ولكن عودة النظام الملكي إلى البلاد ثانية واستتباب الأمن ومواجهة مخلفات فترة الانقلاب وعواقبه، بدأ المواطنون اليهود يستعيدون وضعهم الطبيعي ويمارسون أعمالهم في مختلف المجالات ولاسيما في الاقتصاد والتجارة والحياة الفنية وتأسيس مدارس جديدة.
وحين انتهت الحرب العالمية الثانية انتعشت الحياة الديمقراطية بالعراق تناغماً مع النصر على النازية الألمانية والفاشية الإيطالية والعسكرية اليابانية، وبرزت قوى وأحزاب جديدة علنية وسرية، وتشكلت منظمات مجتمع مدني.
كما برزت في الحياة العامة نشاطات متباينة بعضها معادٍ لليهود تمارسه القوى القومية العربية، لاسيما حزب الاستقلال، ونشاط مدافع عن اليهود تجلى في مواقف الحزب الشيوعي العراقي والحزب الوطني الديمقراطي وكثرة من مثقفي العراق.
وفي ذات الفترة برز نشاط أوسع لعناصر قومية متطرفة (صهيونية) حاولت بكل السبل أن تستثمر فاجعة الفرهود ضد اليهود لتؤكد لليهود أن لا مستقبل لهم بالعراق وأن عليهم مغادرة العراق. ولكنها لم تجد تجاوباً واسعاً ولم تحصل هجرة واسعة بل مهاجرين قلة عبر إيران.
ومقابل هذا النشاط الصهيوني ونشاط القوى القومية العربية المتطرفة، دعا الحزب الشيوعي إلى تشكيل منظمة مناهضة للصهيونية أطلق عليها "عصبة مكافحة الصهيونية" التي أسسها الحزب الشيوعي العراق وقادها كوارد شيوعية مثل رئيس العصبة الأستاذ هارون يوسف زلخة، وسكرتيرها العام المناضل يعقوب مصري، ومديرها المسؤول القيادي الشيوعي محمد حسين أبو العيس، التي قامت بنشاطات كثيرة منها المحاضرات والندوات وإصدار الكراسات التي تندد بالصهيونية وأهدافها.
وفي البداية ايدها نوري السعيد، ولكنه حاربها بعد أن تم الاتفاق على خطة عدوانية ضد الوجودي اليهودي بالعراق.
لقد امتدت هذه الفترة من عام 1942 حتى العام 1947 وتميزت بالإيجابية والنشاط السياسي الحيوي ليهود العراق ضمن الأحزاب الوطنية العراقية، ولاسيما الحزب الشيوعي العراقي والحزب الوطني الديمقراطي، وفي الصحافة العراقية والنشاط الثقافي والأدبي العام، ولكنها اقترنت بظواهر سلبية ايضاً ومحاولات جادة لإلحاق الأذى باليهود وتنكيد عيشهم ونشاطهم من جانب جماعات قومية ورجعية صغيرة.
من يتابع دور اليهود في الحياة التجارية العراقية سيجد أن كان لليهود الدور البارز والرئيسي في التجارة وفي عدد التجار وحجم التعامل التجاري وفي تبوء اليهود المواقع الأساسية في غرفة تجارة بغداد.
ويمكن للجدول التالي توضيح عدد اليهود في الهيئات الإدارية لغرفة تجارة بغداد بين 1935 - 1951:
عدد التجار اليهود في الهيئة الإدارية لغرفة تجارة بغداد
وخلال هذه الفترة برز بالعراق مجموعة مميزة من الأطباء اليهود البارعين والصحفيين المميزين وكتاب القصة والشعر والأغنية العراقي وكثرة من الموسيقيين العازفين والملحنين وعدد كبير من المغنين والمغنيات المبدعات.
واحتل بعضهم مواقع قيادية في الحزب الشيوعي العراقي، منهم على سبيل المثال لا الحصر ساسون دلال ويهودا صديق يهودا، وقد أعدما في العام 1949 في فترة إعدام يوسف سلمان يوسف (فهد) وزكي بسيم وحسين محمد الشبيبي.
إضافة على العشرات من المناضلات والمناضلين اليهود الذين زج بهم في السجون لنشاطهم في الحزب الشيوعي العراق، كما كان هناك صحفيون مرموقون مثل السادة أنور شاؤول، سليم البصون، مير بصري، والسيدات استرين إبراهيم، فهيمة إبراهيم حييم، ماتيلدا يوسف داود، رني طويق، إيلانا بصري مارسيل طويق، مليحة أسحيّق ومريم الملا.
وكان أول مناضل عراقي سقط في مظاهرة 28 حزيران 1946 ببغداد هو الشهيد الشيوعي الشاب شاؤول طويق بأيدي شرطة النظام الملكي العراقي التي استخدمت الحديد والنار لتفريق المظاهرة السلمية.
المرحلة الرابعة (1947 - 1958)
الحلقة الرابعة
ما أن تنفس يهود العراق هواءً نقياً في الأجواء الاجتماعية العراقية وعودة الصفاء نسبياً إلى علاقات الناس الطبيعية بعيداً عن التمييز الديني نسبياً، رغم استمرار فعل الأحداث الأليمة والخانقة لفاجعة الفرهود في ذاكرة اليهود حية وحاضرة دوماً، حتى صدر قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 بتاريخ 29 تشرين الثاني/نوفمبر 1947، أي بعد 30 عاما و27 يوماً من صدور وعد بلفور في 2 نوفمبر/تشرين الثاني 1917.
وفي أوائل كانون الأول/ ديسمبر قررت الدول العربية المجتمعة في القاهرة رفض القرار والدخول في حرب ضد إسرائيل في العام 1948.
ومع إعلان قرار تقسيم فلسطين إلى ثلاثة كيانات، إسرائيل، وفلسطين، والقدس، ووضعها الأخيرة تحت الوصاية الدولية، حتى بدأت النشاطات المناهضة لليهود بالعراق وفي بقية الدول العربية.
وصدرت قرارات مجحفة من جانب الحكومة العراقية، بما فيها إبعادهم من الوظائف الحكومية ومنع قبول الطلبة اليهود في الجامعات والمعاهد العراقية، ومنعهم من السفر والتضييق على نشاطاتهم الاقتصادية والتجارية إلى حدود بعيدة، والتحرش بهم في المدارس والشوارع وفي محلات العمل والإساءة لهم بكل السبل المتوفرة.
كما حصلت مظاهرات منددة بإسرائيل ويهود العراق وكأن يهود العراق هم المسؤولون عما أطلق عليه بـ"نكبة" فلسطين.
وقد منع الحكام ببغداد والقضاء العراقي "عصبة مكافحة الصهيونية ومنعوا صدور جريدتها "العصبة ونشاطاتها وفعاليات مثل الندوات والاجتماعات العام، وقدمت هيئة إدارة العصبة إلى القضاء العراقي وحكم عليهم بالحبس مدداً متفاوتة بذريعة إن معنى عصبة مكافحة الصهيونية هو تأييد الصهيونية لا غير، وكان قراراً بائساً ومضحكاً في آن واحد.
وحين كان الحزب الشيوعي العراقي يدافع عن يهود العراق كان يتهم بأنه صديق الصهيونية كذباً وزورا.
ورغم هذا الجو الخانق واصل يهود العراق نشاطهم في فتح المدارس الجديدة والمشاركة في الحياة العامة وفي الحياة السياسية العراقية، ولاسيما في الحزب الشيوعي العراقي وفي الحزب الوطني الديمقراطي، وفي الإعلام والصحافة العراقية.
وقد القي القبض على الكثير من الكوادر الشيوعية وأعضاء الحزب الشيوعي العراقي من اليهود وزجوا في السجون لمدد طويلة.
وفي ذات الفترة بدأ بعض يهود العراق يحاولون الخروج من العراق تفادياً لاحتمالات حصول فراهيد جديدة كما حصل في العام 1941 بالبصرة وبغداد. إلا إن العدد كان محدوداً.
وخلال هذه الفترة برزت ظاهرة التفجيرات بقنابل صغيرة في مناطق مختلفة من بغداد اتهم فيها مجموعة من أتباع الصهيونية وعملاء في الموساد الإسرائيلي العاملين بالعراق أرسلوا أو انتدبوا خصيصاً لهذه الأفعال الإجرامية، بهدف نشر الخوف والرعب في صفوف اليهود ودفعه للهجرة إلى إسرائيل.
وقد تم إلقاء القبض على بعض من هؤلاء وقدموا على المحاكمة، كما نشر بعض هؤلاء سيرة حياتهم في الموساد وأشاروا إلى دورهم في ذلك.
وفي ذات الوقت اشير إلى أن عدداً من الأشخاص من الجماعة القومية العربية المتطرفة المعادية لليهود قد ارتكبوا مثل هذه الجرائم أيضاً لتحقيق ذات الهدف، أي لدفع اليهود إلى ترك العراق.
وفي اعقاب هذه الحالة ارتفع عدد الراغبين في الهجرة، ولكنه كان محدوداً جداً والغالبية العظمى كانت إلى جانب البقاء بالعراق ولم تفكر في الهجرة، رغم تفاقم العداء والتضييق الشديد على اليهود وتحويلها إلى جحيم لا يطاق.
وتجدر هنا الإشارة إلى أن إعدام رجل الأعمال اليهودي العراقي شفيق عدس بالبصرة في 23/9/1948 بتهمة تصدير مخلفات الحديد للقوات البريطانية في البصرة إلى إسرائيل عبر إيران وتعليق حثته عل عمود الشنق، دون اعتقال شريكيه المسلمين في التهمة، اعتبر انتقاماً ضد خسارة القوات العربية في الحرب ضد إسرائيل، مما اثار رعب اليهود بأنهم جميعاً مرشحون لمثل هذه التهم والأعمال الانتقامية.
[رفعة عبد الرزاق محمد، حدث في مثل هذا اليوم: إعدام شفيق عدس، جردية المدى، العدد 2899، في 22/9/2013].
في هذه الفترة كان مطبخ التآمر الدولي على يهود العراق ويهود الدول العربية كما انفك يعمل بجدية وحماس كبيرين لدفع اليهود على الهجرة إلى إسرائيل، وكأنهم كانوا يريدون إفراغ الدول العربية منهم، وتعزيز إسرائيل بهم وبكفاءاتهم المعهودة والمعروفة.
وأحد تلك المطابخ كان يعمل بالعراق حيث تم الاتفاق، كما تشير إلى ذلك تسلسل الأحداث، بين بريطانيا وإسرائيل والعراق عبر سفارة المملكة المتحدة بالعراق، وبدعم من الولايات المتحدة، على إصدار قانون يسمح لليهود بالهجرة النهائية من العراق، أي إسقاط الجنسية العراقية عنهم.
وقد صدر هذا القانون بنصه التالي:
قانون رقم (1)
قانون ذيل مرسوم اسقاط الجنسية العراقية رقم 62 لسنة 1933
الوقائع العراقية - رقم العدد: 2816
تاريخ: 09/03/1950
عدد الصفحات: 2
رقم الصفحة: 1
بموافقة مجلسي الأعيان والنواب أمرنا بوضع القانون الآتي : -
1.المادة الأولى – لمجلس الوزراء أن يقرر [اسقاط] [الجنسية] العراقية عن اليهودي العراقي الذي يرغب باختيار منه ترك العراق نهائيا بعد توقيعه على استمارة خاصة أمام الموظف الذي يعينه وزير الداخلية.
2.المادة الثانية - اليهودي العراقي الذي يغادر العراق أو يحاول مغادرته بصورة غير مشروعة تسقط عنه [الجنسية] العراقية بقرار من مجلس الوزراء .
3.المادة الثالثة – اليهودي العراقي الذي سبق ان غادر العراق بصورة غير مشروعة يعتبر كأنه ترك العراق نهائيا اذا لم يعد اليه خلال مهلة شهرين من نفاذ هذا القانون وتسقط عنه [الجنسية] العراقية من تاريخ انتهاء هذه المهلة.
4.المادة الرابعة – على وزير الداخلية أن يأمر بإبعاد كل من أسقطت عنه [الجنسية] العراقية بموجب المادتين الأولى والثانية ما لم يقتنع بناء على أسباب كافية بأن بقاءه في العراق موقتا أمر تستدعيه ضرورة قضائية أو قانونية أو حفظ حقوق الغير الموثقة رسميا.
5.المادة الخامسة – يبقى هذا القانون نافذا لمدة سنة من تاريخ نفاذه ويجوز انهاء حكمه في أي وقت خلال هذه المدة بإرادة ملكية تنشر في الجريدة الرسمية.
6.المادة السادسة – ينفذ هذا القانون من تاريخ نشره في الجريدة الرسمية.
7.المادة السابعة – على وزير الداخلية تنفيذ هذا القانون.
كتب ببغداد في اليوم الخامس عشر من شهر جمادي الأول سنة 1369 واليوم الرابع من شهر مارت سنة 1950 .
عبد الاله صالح جبر توفيق السويدي
وزير الداخلية رئيس الوزراء
)نشر في الوقائع العراقية عدد2816 في9 -3- 1950(
وفي فترة لاحقة صدر قانون آخر شمل من ترك العراق من اليهود بصورة مشروعة ولم يعد بعد 3 أشهر إلى العراق، يعتبر قد ترك العراق وتسقط عنه الجنسية، واستثنى من ذلك من تأخر عن العودة لأسباب مرضية أو دراسية.
ألغى عبد الكريم قاسم هذا القانون أيضاً، إلا إن عبد السلام عارف قد أعاد العمل بباقانونين.
لقد كان هذا القانون جريمة بشعة بحق العراق وشعبه، كان القشة التي قصمت ظهر البعير.
لقد بدأ العد الفعلي للهجرة الجماعية ليهود العراقي إلى قبرص، ومنها إلى إسرائيل أو إلى دول أوروبية غربية أو إلى الولايات المتحدة الأمريكية وكندا واستراليا.
كما إن القانون وصمة عار في جبين من صادق عليه في مجلسي النواب والأعيان والوصي عبد الإله ورئيس الوزراء توفيق السويدي ووزير الداخلية صالح جبر، وكل من وافق عليه وساند إصداره.
وقد لعبت دوائر التحقيقات الجنائية والشعب الخاصة التابعة لها في الألوية والمدن العراقية وأجهزة الدولة الأخرى والقوى القومية والعناصر الرجعية دوراً كبيراً في تنشيط الهجرة بأعمال دعائية واعتقالات مريبة وتضييق الخناق، مما أدى إلى ارتفاع عدد المهاجرين خلال الفترة الواقعة بين 1950 – 1951 إلى 112 ألف مهاجر تقريباً، حيث حط الرحال أكثر من 95% منهم بإسرائيل.
وتشير المعلومات إلى أن توفيق السويدي قد حقق له مكاسب مهمة عن كل شخص يستقل طائرة الهجرة باتفاق مع شركة النقل الأمريكية، إضافة إلى ما تم من سلب ونهب للأموال المنقولة لليهود المهاجرين، وكذلك الكثير من الأموال غير المنقولة كدور السكن ومحلات العمل.. الخ، بعد صدور قانون تجميد أموال اليهود في سنة 1951.
لقد سجل هذا القانون الظالم كارثة حقيقية لليهود وللشعب العراقي، خسارة فادحة لهم وللشعب في آن واحد، هم خسروا العراق والعراق خسرهم، إذ فقد أحد مكونات شعبه الأساسية، يهود العراق، الذين عاشوا فيه ومع بقية سكانه ما يقرب من 28 قرناً وساهموا في بناء حضارته في العهود القديمة وفي مراحل التاريخ اللاحقة وفي العهد الملكي لاسيما بين 1921-1951.
ولم تقتصر الهجرة على يهود بغداد بل شملت يهود الوسط والجنوب وشمال العراق وكردستان العراق. ثم استمرت الهجرة ببطء لاحقاً حتى قيام انتفاضة الجيش العراقي في 14 تموز 1958 ومحاولة الشعب تحويلها إلى ثورة وطنية ديمقراطية بهدف تحقيقها جملة من المهمات الوطنية والديمقراطية.
تابعونا في المرحلة الاخيرة في الاسبوع القادم..