سجل يوم 25/03/2017 الذكرى الـ 60 لميلاد السوق الأوروبية المشتركة بمدينة روما، حيث تم التوقيع على الوثيقة المشتركة من قبل الدول الأوروبية التالية: فرنسا وإيطاليا وألمانيا الغربية وبلجيكا وهولندا ولكسمبورغ. كانت فكرة تأسيس السوق الأوروبية المشتركة قد برزت منذ عام 1951 وطرحت كمشروع بمدينة روما بأمل إقامة وحدة اقتصادية فيما بين هذه الدول لاحقاً. وفي أعوام مختلفة تالية التحقت دول أخرى بالسوق المشتركة. ففي عام 1973 التحقت بها كل من المملكة المتحدة والدانمارك، ثم اليونان عام 1981، وإسبانيا والبرتغال عام 1986، ثم إيرلندا عام 1993، فالسويد وفنلندا والنمسا عام 1995.
وفي العام 1992، أي قبل انضمام إيرلندا والسويد وفنلندا والنمسا، تم تأسيس الاتحاد الأوروبي بعد وضع اتفاقية جديدة والتوقيع عليها في مدينة ماسترخت/، وسميت باتفاقية أو معاهدة ماسترخت، وهي مدينة هولندية تقع في الجنوب الشرقي من هولندا. ومنذ عام 2004 بدأ التحاق دول أوروبا الشرقية المنسلخة من اتفاقية التعاون الاقتصادي المتبادل مع الاتحاد السوفيتي السابق والأعضاء في حلف وارشو السابق، إلى الاتحاد الأوروبي بعد انهيار المنظومة الاشتراكية واتفاقياتها المشتركة، حتى بلغ مجموع دول الاتحاد الأوروبي حتى الآن 28 دولة هي كالآتي:
1)بلجيكا، 2) فرنسا، 3) ألمانيا، 4) إيطاليا، 5) لوكسمبورغ، 6) هولندا، 7) الدّنمارك، 8) إيرلندا 9) المملكة المتّحدة، 10) اليونان، 11) البرتغال، 12) إسبانيا، 13)، النّمسا، 14) فنلندا، 15) السويد، 16) قبرص، 17) التشيك، 18) إستونيا، 19) المجر، 20) لاتفيا، 21) ليتوانيا، 22) يالطا، 23) بولندا، 24) سلوفاكيا، 25) سلوفينيا، 26) بلغاريا، 27) رومانيا، 28) كرواتيا.
وفي على 23 حزيران/يونيو 2016 أقدم رئيس وزراء بريطانيا المحافظ ديفيد كاميرون على إجراء استفتاء شعبي ببريطانيا حول بقاء أو انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. فاز في الاستفتاء الرأي الداعي إلى انسحاب بريطانيا وجبل طارق من الاتحاد الأوروبي، رغم إن الفارق بين المؤيدين والمعارضين للانسحاب كان ضئيلاً جداً، 51,9 : 48,1 %، فاستقال رئيس الوزراء وشكلت السيدة المحافظة تيريزا ماي وزارة المحافظين الجديدة. وفي 30 من شهر أذار/مارس 2017 قدمت رئيسة الوزراء طلباً رسمياً بانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وستستغرق مفاوضات الانسحاب الصعبة والمعقدة والمكلفة جداً لبريطانيا حوالي السنتين، على وفق المادة 50 من معاهدة ماسترخت لسنة 1992.
وقد أشاع هذا الانسحاب خشية كبيرة لدى بعض دول الاتحاد، لاسيما ألمانيا المستفيدة الكبرى من وجوده، لاحتمال حصول تداعيات وانسحاب بعض الدول الأخرى منه. كل الدلائل التي تحت تصرف الكاتب تشير إلى أن مؤسسات الاتحاد الأوروبي، وخاصة مجلس ورئاسة الاتحاد، ومن ثم البرلمان الأوروبي قد تسرعا جداً بدعوة وإلحاق جميع دول أوروبا الشرقية، وبعض تلك الدول كان جزءاً من الاتحاد السوفييتي السابق، إلى الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى ضمها في عضوية حلف شمال الأطلسي، بأمل قطع الطريق على أي احتمال بالبقاء خارج هاتين المنظمتين السياسية - الاقتصادية والعسكرية، أو إقامة علاقات جديدة مع روسيا الاتحادية، وبأمل خلق طوق اقتصادي- سياسي-عسكري من هذه الدول الأعضاء الجدد في حلف شمال الأطلسي حول روسيا، باعتبارها دولاً مناهضة للدولة الروسية الاتحادية. وكان هذا الموقف أحد أبرز أخطاء المؤسسات الرسمية للاتحاد الأوروبي، لأن الاتفاقات التي كانت قد وقعت مع الاتحاد السوفييتي في حينها تؤكد ابتعاد حلف شمال الأطلسي من الدول المجاورة للاتحاد السوفييتي السابق قبل انهياره والدولة الروسية الاتحادية الجديدة. وكان هذا إخلال بالاتفاقات بين روسيا والاتحاد الأوروبي من جانب الاتحاد الأوروبي الذي تسبب في مشكلات لاحقة وأثار استياء روسيا، ولاسيما حين اقترب الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي من أوكرانيا، وما نشأ بسبب ذلك من صراعات وقتال وانقسام وإلغاء قرار خروتشوف الصادر في العام 1954 بجعل جزيرة القرم جزءاً من جمهورية أوكرانيا ذات الحكم الذاتي التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي السابق. وفي حينها نشرت صحيفة "برافدا"، الناطقة باسم الحزب الشيوعي السوفييتي، خبراً بجملة طويلة واحدة يوم 27 فبراير/ شباط ،1954 قائلة: "أصدر مجلس السوفييت الأعلى مرسوماً يقضي بنقل ملكية محافظة القرم من الجمهورية الروسية إلى جمهورية أوكرانيا، آخذاً في الاعتبار الطابع التكاملي للاقتصاد، والمجاورة الجغرافية، والروابط الاقتصادية الوثيقة بين محافظة القرم وجمهورية أوكرانيا، ومصادقاً على اقتراح رئاسة مجلس السوفييت الروسي ورئاسة مجلس السوفييت الأوكراني بشأن نقل محافظة القرم من الجمهورية الروسية إلى الجمهورية الأوكرانية.
هكذا حصلت أوكرانيا على "هدية من خروتشوف. "(أنظر: موقع الخليج، ملحق الاسبوع السياسي، كيف قدم خروتشوف القرم "هدية" إلى أوكرانيا؟ تاريخ النشر: 13/03/2014.
http://www.alkhaleej.ae/supplements/page/8d6cab89-ed94-4369-83f6- 4b52d3f0b0c0#sthash.7397GgTL.dpuf) لقد تغافلت دول الاتحاد الأوروبي عن الفوارق الجدية القائمة بين مستوى تطورها وتطور الدول الاشتراكية السابقة، والمشكلات الاقتصادية والاجتماعية الجديدة الناشئة في هذه الدول التي بدأت في طريقها المعقد صوب الانتقال التدريجي نحو الرأسمالية، رغم إنها لم تكن في واقع الحال في نظام اشتراكي فعلي.
إن إلقاء نظرة فاحصة على أوضاع الدول التي انخرطت في عضوية الاتحاد الأوروبي على امتداد الفترة الواقعة بين 1957-2017 سيجد أنها غير متجانسة من حيث مستوى تطورها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. فهناك مجموعة صغيرة من الدول الرأسمالية المتقدمة اقتصادياً، التي وصلت إلى قمة تطورها الرأسمالي على الصعيد العالمي، ولاسيما ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وبريطانيا، في حين تليها في مستوى التطور كل من النرويج وبلجيكا وهولندا والسويد والدنمارك وفنلندا، ثم تأتي مجموعة من الدول التي تعاني من مشكلات اقتصادية واجتماعية، والتي التحق أغلبها قبل عام 1992، ومنها اليونان والبرتغال وإسبانيا، بعدها تأتي الدول التي تقف على حافة التحول صوب الرأسمالية، وهي الدول "الاشتراكية" التي انسلخت من معاهدة التعاون الاقتصادي المتبادل ومن حلف وارشو والتحقت بالاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، رغم إنها هي الأخرى متباينة في مستوى تطورها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، مثل بولونيا وتشيكوسلوفاكيا الأكثر تقدماً بالمقارنة مع بلغاريا ورومانيا، وكذلك الدول التي تشكلت نتيجة التدخل الخارجي والحرب في يوغسلافيا السابقة، وهي الأقل تطوراً أو تلك التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي، جمهوريات إستونيا ولتوانيا ولاتفيا. ويتجلى التباين في مستويات التطور في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسات الداخلية، كما في مجالات البحث العلمي والتقدم التقني، وفي مستوى تطور القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج الرأسمالية، وتشوه بنية الاقتصاد الوطني، وانخفاض مستوى إنتاجية العمل والناتج المحلي الإجمالي، وحصة الفرد الواحد من الدخل القومي والبطالة المكشوفة والمقنعة، إضافة إلى ضعف مستوى الخدمات الاجتماعية، ومنها الصحية والتعليم والتقاعد ومستوى الأجور والرواتب ...الخ، رغم وجود جوانب إيجابية كانت فيها وهي في إطار دول "الاشتراكية في الواقع"، في مجال الصحة والتعليم وجوانب أخرى. لقد كان هذا كله واضحاً لمؤسسات الاتحاد الأوروبي، ولكنها لم تتخذ أية إجراءات حقيقية فاعلة تساهم في تغيير هذا الواقع ودعم سرعة تطور تلك البلدان للحاق بالدول الأكثر تقدماً وتقليص الفجوة بين الأكثر والأقل تطوراً، بل بذلت الدول المتقدمة جهوداً حثيثة للاستفادة من هذا الوضع غير السليم لصالحها، لاسيما لصالح ألمانيا الاتحادية، التي حققت نجاحات باهرة ومكاسب كبيرة على حساب دول الاتحاد الأقل تقدماً وتطوراً. وهو ما انعكس على العلاقات المتوترة بين تلك الدول وألمانيا بشكل خاص. لم تكن هناك عجالة في ضم تلك الدول إلى الاتحاد الأوروبي فحسب، بل حصل التسرع في إقرار العملة الموحدة (اليورو) بدلاً من عملاتهم الوطنية وفرضها عملياً على كل الدول ما عدا بعض الدول القليلة مثل السويد والدنمارك وبريطانيا التي حافظت على عملاتها الوطنية. كما إن المعايير التي وضعت كانت وما تزال صالحة للدول المتقدمة في حين إنها ألحقت الضرر بتلك الدول الأقل تطوراً والأكثر معاناة من مشكلات اقتصادية واجتماعية.
تشير مؤسسات الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك ما نضح عن الاحتفال بالذكرى الستينية لتأسيس السوق المشتركة بروما، إلى إن المبادئ التي تعتمدها هي: الحرية والديمقراطية ودولة القانون والسلام. ولكن هذه المبادئ الأربعة، رغم نواقص تطبيقها على وفق معايير التقدم فيها، ينقصها مبدأ أساسي واحد، إذ بسبب غيابه نشأت حقاً أغلب المشكلات الراهنة التي يعاني منها الاتحاد الأوروبي، وأعني به العدالة الاجتماعية. إن غياب العدالة الاجتماعية عن مبادئ وواقع ونشاط مؤسسات ودول الاتحاد الأوروبي شمل كامل المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعلمية والصحية على سبيل المثال لا الحصر.
وقد تفاقم ذلك بممارسة دول الاتحاد الأوروبي نهج وسياسات اللبرالية الجديدة التي عمقت الفجوة بين هذه الدول في جميع المجالات، ولاسيما في مستويات الدخل ومستوى المعيشة ومستوى الخدمات الاجتماعية ومستوى التقدم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي ومدى التمتع بالحريات العامة وحقوق الإنسان وحقوق المرأة وقضايا التمييز في المجتمع، بما في ذلك دور المرأة في المناصب العليا في الدولة والشركات والمؤسسات والمجتمع وفي الموقف من الفئات الفقيرة، كما وسع من قاعدة الفقراء في كل دول الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك الدول الأكثر غنى مثل المانيا الاتحادية. والمشكلة الأخرى التي تعاني منها دول الاتحاد الأوروبي تبرز في تفاقم النهج البيروقراطي في مؤسسات الاتحاد الأوروبي الذي بدأت شكوى الجميع منها منذ سنوات كثيرة دون أن تتخذ الإجراءات لمواجهتها لصالح المزيد من الديمقراطية والشفافية في عمل ونشاط الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه. ويشار اليوم إلى أن الاتحاد الأوروبي يعاني من أزمة ديمقراطية فعلية.
والمشكلة لا تمس الاتحاد الأوروبي وحده بل جميع دول الاتحاد الأوروبي التي تعاني كلها من هذه الأزمة، أزمة الديمقراطية الناقصة لصالح البيروقراطية المعششة في مؤسساتها والمؤذية لمزيد من دور الفرد والمجتمعات في اتخاذ القرارات والفعاليات والمشاركة الفعلية في ذلك.
ويعاني سياسيو الدول الأوروبية من ضعف في مصداقيتهم أمام ناخبيهم، أو أمام مجتمعاتهم، والذي يتجلى في ضعف نسب المشاركة في الانتخابات من جهة، والتذمر المتزايد من سياسات الدول والاتحاد الأوروبي من جهة أخرى، حتى نشأت في كل هذه الدول أحزاباً يمينية تدعو للخروج من الاتحاد الأوروبي ومن منطقة اليورو، ولاسيما بعد بروز "أزمة اليورو" الراهنة والمستمرة، والتي بدأت تحوز على رضى المزيد من الناس وتحصل على مقاعد في المجالس المحلية والمجالس النيابية وفي البرلمان الأوروبي، في حين واصلت الأحزاب اليسارية الدعوة إلى تغيير في نهج وسياسات دول الاتحاد الأوروبي والاتحاد الأوروبي ذاته لاسيما السياسات الاجتماعية دون المساس بوجوده. إن الاتحاد الأوروبي بحاجة إلى تغيير في الكثير من جوانب نهجه وسياساته الاقتصادية والاجتماعية والصحية والتعليمية والموقف من تفاقم الفجوة بين الفقراء والأغنياء وتزايد عدد ونسبة الفقر في هذه الدول، باتجاه وعي حاجة المجتمع لهذا التغيير وضروراته وممارسته، وبدون ذلك سيتعرض الاتحاد الأوروبي إلى هزات جديدة ربما تفقده الكثير من الدول الأعضاء الحاليين، وإلى مزيد من التذمر والاحتجاج، والشاعر العباسي أبن النبيه قال يوماً "أول الغيث قطر ثم ينهمر المطر". حتى الآن لم يبرز أي توجه لدى الاتحاد الأوروبي للتغيير، ولكن هل ستجبر أزمة خروج بريطانيا من الاتحاد على اتخاذ بعض الإجراءات، وهل ستكون ترقيعية أم حقيقية، هذا ما ستكشفه الفترة القادمة، رغم علمي بأن التغيير المنشود لن يأتي على أيدي بنية مؤسسات الاتحاد الحالية ولا على أيدي القوى المحافظة المهيمنة هذه المؤسسات حالياً!