وفاء لنضال رفيق الدرب الطويل الرفيق عزيز محمد بعد وفاته
وفاءً لمناضل كرَّس حياته للوطن والشعب والحزب والتضامن الأممي
حتى أيامه الأخيرة كان الرفيق عزيز محمد يحمل هم الوطن كله، هم العراق وشعب العراق، هم كردستان وشعب كردستان، هم الإنسان العراقي، هم الحزبين الشيوعي العراقي والحزب الشيوعي الكردستاني، هم وجود قوى غير إنسانية على رأس السلطة. كانت اللقاءات به كلها ممتعة ونقاشاته رصينة تدور حول همومه العامة وليس الخاصة. كان شديد الحرص على إيصال رأيه ونقده بصراحة ووضوح لمن يعنيهم الأمر، رغم رغبته في صياغة ملاحظاته في قالب غير خادش لمستمعيه لإدراكه بحساسية الآخرين في ظل الظروف المعقدة والمتشابكة الجارية بالعراق منذ سنوات.
قال لي: إن الرفاق لا يتقبلون ملاحظاتي الصريحة والناقدة بصدر رحب، فمن حرقتي وحرصي عليهم أواجههم بكل صراحة. ذكرته مرة بأنه قال لي، حين وجهت نقداً شديدأ وحماسياً في اجتماع للجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي في العام 1974 ببغداد بشأن موضوع محدد: يا رفيق أبو سامر كسرت الرگية (بطيخة حمراط)، وضيعنا الحب واللب".
فضحكنا معاً.. رغم كل الأوضاع المتدهورة، ورغم الوضع الصحي الصعب، لم يفقد الأمل، ولو للحظة واحدة، بعودة الحياة والحركة للشعب العراقي ولشعب كردستان، ولكنه كان يخشى أن يخسر العراق المزيد من الضحايا في تحرير الأرض وإعادة البناء والخلاص من القوى المستبدة والقوى التي تسببت بكل ذلك. في زيارتين قمت بهما له بأربيل في كانون الثاني/يناير 2017 كان ما يزال حيوي في نقاشه وفي طرح وجهات نظره، رغم بطء حركته. وكان الحزب الشيوعي الكردستاني على وشك أن يعقد مؤتمره السادس. كانت ذاكرته نشطة، تحدث لي عن التقرير والبرنامج والملاحظات التي تكونت لديه والتي سيطرحها على المؤتمرين ورغبته في أن يستعيد الحزب عافيته وجماهيريته، رغم كل الصعوبات المحيطة به وبالحركة الديمقراطية. وكان يخشى أن لا تستقبل ملاحظاته بصدر رحب! كانت ذاكرته نشطة جداً، سواء أكانت لماضي الأيام والسنوات، أم للفترة الت نحن فيها. إذ كان متابعاً للأحداث أولاً بأول، سواء على صعيد كردستان أم العراق، أم المنطقة العربية والشرق الأوسط. وكان الحوار معه ممتعاً وغنياً.
تحدثت له قبل ذاك عن كتاب جديد للمناضل البروفيسور الدكتور محمد محمود من السودان، المقيم قسراً ببريطانيا، والموسوم "نبوة محمد – التاريخ والصناعة – مدخل لقراءة نقدية"، [صادر عن مركز الدراسات النقدية للأديان، لندن، بريطانيا، سنة النشر: ط 2 /2013، 472 صفحة]. شوقته لقراءة الكتاب. جلبته له، قرأه في فترة قصيرة، أعجب به أيما إعجاب بسبب معالجته العلمية والوثائقية لمسألة النبوة عموماً. كان عزيز محمد كثيف القراءة، نهم بمعنى الكلمة، ولكنه كان شحيح الكتابة.
كنا رفيقين في حزب واحد وعملنا معاً ومع بقية الرفاق عشرات السنين، ولكن على امتداد تلك السنوات لم نكن صديقين بالمعنى الصحيح للكلمة، إلا في السنوات العشر الأخيرة تقريباً، حيث واظبت على زيارته كلما زرت كردستان العراق، مرة بمفردي وأخرى مع زوجتي أم سامر وثالثة مع صديقنا المشترك الحاكم بوتان، فتوطدت علاقتنا الصداقية وتعززت وحاول بعضنا معرفة الآخر بشكل أفضل.
وحين كان يأتي إلى برلين لزيارة ابنته العزيزة شيرين، كان لا يفوت فرصة اللقاء والحديث وتبادل الرأي. آخر زيارة لي له، سواء أكان مع عدد من الأحبة، ومنهم نهاد القاضي، وغالب العاني وعبد الخالق زنكنة وفارس نظمي ومحسن شريد ووليد شريف، أم بمفردي، وقبل مغادرتي أربيل، حين قبلته في جبينه وودعته أدركت، إن حادث الوقوع ليلاً والعملية الجراحية التي أجريت له قد أنهكته تماماً وسرقت منه رحيق الحياة، ولن يعيش طويلاً. أخبرت الرفاق حيدر الشيخ علي وكمال شاكر وهادي محمود، وكذلك رفاق المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراق الذين كانوا حينذاك بأربيل، وكانت آراء من التقى به متفقة مع ما شعرت به وأنا أودعه، وهو يرسل تحياته لأم سامر وبقية الرفاق والأصدقاء. وكان في انتظار ابنتيه فينك وشيرين وزوجته كافية.
لقد مات الرفيق عزيز محمد، ولكنه ترك أرثاً غنياً من النضال الوطني والطبقي في صفوف الحركة الوطنية العراقية وحركة التحرر الكردية وفي صفوف وقيادة الحزب الشيوعي العراقي. لقد قاد الحزب الشيوعي العراقي طوال 27 عاماً في أصعب السنوات وأكثرها تعقيداً وحراجة. لقد أصاب مرة وأخطأ أخرى، لم يكن وحده في ذلك، بل شاركنا معه في الصواب والخطأ، سواء أكان ذلك في المكتب السياسي أم اللجنة المركزية أم في عموم الحزب. لقد جاء عزيز محمد من قرية كردستانية صغيرة في شمال كردستان العراق، لم يكمل تعليمه، ولكن بنضاله الشخصي ودأبه على المطالعة والقراءة النقدية أصبح قائداً لحزب شيوعي عراقي، واحداً من أبرز وأكبر الأحزاب الشيوعية في المنطقة العربية والشرق الأوسط في فترة من فترات نضاله المديد. لم يكن، ولم يدّعِ يوماً أنه واحداً من منظري الحركة الشيوعي العالمية، ولكنه كان واحداً من خيرة مناضلي الحركة الشيوعية العالمية، الذي لم يفقد بوصلة النضال الوطني والطبقي ولو للحظة واحدة حتى الرمق الأخير. لقد كان مخلصاً لتراث وتقاليد الحزب الشيوعي العراقي في حبه للطبقة العاملة العراقية والفلاحين والكسبة والحرفيين ولمثقفين الثوريين ومن كل القوميات، ولم ينس يوماً إنه قد انحدر من عائلة فقيرة ولكنها كريمة، ومن أمة كردية عزيزة وشعب كردي مناضل، إنه كردي القومية، عراقي الوطنية، وأممي الهوية والمبادئ. فقدنا عزيز محمد، الرفيق والأخ والصديق والمناضل، ولكن ترك خلفه تجربة غنية يمكن للحزبين الشيوعي الكردستاني والشيوعي العراقي وللحركة التحررية الكردستاني والحركة الديمقراطية العراقية ان تستفيد منها في نضالها المرير في المرحلة الراهن وفي المستقبل.
ليبقى عزيز محمد ونضاله البطولي شعلة وهاجة، كشعلة بقية شهداء الحزب الشيوعي العراقي والحركة الوطنية والديمقراطية واليسارية العراقية، تنير درب المناضلين من اجل إقامة وطن حر وشعب سعيد.