انتصارات قواتنا الأمنية بمختلف صنوفها وعناوينها، وهزائم عصابات داعش المتتالية، يجعلنا بكل ثقة واطمئنان أن نرفع شعار: الموصل بعد الرمادي، فخطباء داعش في مساجد الموصل المغتصبة يلوحون بالانسحاب، بينما قواتنا تعد العدة بانتظار ساعة الصفر، وهناك أنباء عن انسحاب الكثير ممن يسمون قيادات داعش إلى الأراضي السورية، وجميع المعطيات تؤكد هزيمة داعش على أيدي أبطالنا الشجعان قريباً بإذن الله، وقد نستعيد هنا السؤال الموارب الذي يتمشدق به البعض بسوء نية، وهو سؤال منطقي إذا توفرت النية الحسنة في طرحه، ونقصد به (ماذا بعد داعش؟) والجواب الحقيقي نجده عند أبناء المناطق التي تحررت مؤخراً في الرمادي، وقبلها في ديالى وتكريت، لا نريد الخوض بالتفاصيل، لكن هناك ما يثير الانتباه، ففي الوقت الذي نخوض به حرباً شرسة ضد الإرهاب، نشهد تغيراً ملموساً في الخطاب السياسي، لا سيما ممن يمكن تسميتهم بالرؤوس، الرئاسات الثلاث وبعض رؤساء الكتل والزعامات السياسية والدينية، فحين صرحت المرجعية الرشيدة بعدم التطرق للأمور السياسية إلا إذا اقتضت الضرورة، بعضهم قال بأنها يئست من العملية السياسية، أو عبرت عن عدم رضاها، وهذا تفسير ليس بالضرورة أن يكون صواباً، بل الصواب إن المرجعية استجابت لمطالب البعض بعدم التدخل في السياسية، إلا للضرورة، ونرى أن العملية السياسية على الرغم من كل التحديات، صار لها خطاب مختلف عمَّا كان سائداً، وهذا ينبئ بمرحلة جديدة تنطوي على أسس أولية لمشروع وطني لبناء الدولة.
العديد من الأطراف الفاعلة في المشهد السياسي، أبدت استعدادها للتعاون مع الدكتور العبادي في إعادة النظر بالتشكيلة الوزارية، والذهاب لتشكيل حكومة تكنوقراط، وهذا اعتراف ضمني جريء من السيد رئيس الوزراء بكون الحكومة الحالية لا تتناسب مع حجم التحديات التي يواجهها البلد، من دون طعن بأحد، وإذا كان الرجل قد أخلى مسؤوليته بصراحة ووضوح، فعلى الآخرين إخلاء مسؤولياتهم بشفافية بمنحه فرصة حقيقية للاختيار، فالأزمة الاقتصادية بالتزامن مع حربنا المقدسة لتحرير أراضينا من رجس عصابات داعش ليس بالأمر الهين، وقد يربك أكبر البلدان وأكثرها استقراراً، فضلاً عن تحديات أخرى كملف الخدمات الذي بات يشكل عائقاً في حياة المواطن، وملفات الفساد، وبالضرورة إعادة إعمار المدن المحررة، وملف النازحين، وأزمات الإقليم مع المركز، وبعض الأزمات الخارجية مع بعض دول الجوار، كالإصرار التركي على خرق سيادة البلد وغير ذلك من التدخلات، ونرى بأن تياراً لطيفاً من الاعتدال يسود المشهد السياسي، مما يجعلنا متفائلين نوعاً ما. الأطراف السياسية جميعها داعمة للانتصارات الكبيرة لقواتنا الأمنية التي دحرت داعش وتواصل زحفها للقضاء على آخر فلوله، قد تختلف في بعض التفاصيل، وكذلك جميعها داعمة للإصلاحات الاقتصادية والإدارية، بما في ذلك المطلب الأخير (تشكيل حكومة تكنوقراط)، قد تكون خلف الكواليس نوايا مغايرة لما هو معلن، أما مكافحة الفساد، فلا يختلف بشأنه اثنان، لكن هناك ربما تهاون بسبب الضغوط السياسية، نتمنى أن تكون الأطراف السياسية جادة هذه المرة في التخلص من المحاصصة ومنح الفرص للكفاءات الحقيقية والخبرات التي يمكنها النهوض بواقع البلد اقتصادياً وأمنياً وخدمياً، لا يمكن أن نحلم بوضع مثالي قبل أن نتخلص من الإرهاب بكل أشكاله وصوره ومسمياته، ثم مواجهة أزمة انخفاض أسعار النفط بحلول واقعية تضمن لنا تنمية مستديمة، ومعالجة ملفات الفساد واسترداد المال العام من السراق، وهذا لا يكون إلا من خلال مشروع وطني جامع وحكومة مهنية، ونرى أن أدبيات المشهد السياسي اليوم تتجه نحو ذلك.