"من تكلم قتلناه ومن سكت مات بغمه كمداً" هذه العبارة التي أطلقها الحجاج بن يوسف الثقفي قبل ما يقرب من (1300 عام) هي المنهج القمعي لأي سلطة غاشمة، ولطالما قتل عراقيون لمجرد أنهم تكلموا، وأمات الغم آخرين لأنهم سكتوا، أما اليوم وأعني في عراق ما بعد الدكتاتورية، فلا وجود لسلطة (من تكلم قتلناه) أو قمع التعبير عن الرأي، ولكن ربما هناك من يموت كمداً، ليس بسبب السكوت خوفاً من السلطة، ولكن بسبب الحيرة مما يجري، فمن كان بالأمس القريب متهماً بالفساد وبدعم الأعمال الإجرامية أصبح اليوم معتصماً ضد الفساد ويطالب بالتغيير الشامل للعملية السياسية، ومن دخل لميدان السياسية من باب المحسوبية والمحاصصات الجهوية والحزبية والعشائرية والأسرية أصبح معتصماً ضد المحاصصة، ومن كان يعبد رئيس كتلته ويتزلف له ويتملقه صار يطالب بالتمرد عليه، ومن أثرى بنهب المال العام انقلب بين ليلة وضحاها إلى مصلح اجتماعي، ومن لا هم له سوى السرقة والرشوة وانتهاز الفرص راح ينشر (سلفياته) متظاهراً ومعتصماً وناعقاً مع كل ناعق، وليس لنا نحن القلة القليلة سوى السكوت.
طبعاً أنا لست ضد المتظاهرين والمعتصمين الحقيقيين الذين تحركوا بوازع من ضمائرهم الحية ليعبروا عن نقمتهم على سوء الأوضاع، لكن أعني بعض الانتهازيين وراكبي الموجة ممن سيسوا مطالب الشعب وراحوا يتاجرون بوثبته ضد الفساد فانسلوا بقدرة قادر من خانة المفسدين إلى خيام المعتصمين، لست ضد أي شكل من أشكال التعبير عن الرأي بما ينسجم مع الحقوق الدستورية لكل فرد أو جماعة، فالدستور وهو خيمتنا بصرف النظر عن تحقظاتنا على بعض مواده، قد أقر حق التظاهر وهناك إجراءات أصولية في طلب الموافقة وتأمين الحماية، وهناك اشتراطات تؤكد سلمية التظاهرات، من حقنا المطالبة بإسقاط الحكومة أو بعض الوزراء ونعترض على مجلس النواب أو بعض أعضائه وقوانينه، لكن أن يصل الأمر إلى تطويق الوزارات ومؤسسات الدولة ومنع الموظفين من الدخول والخروج وعرقلة عملهم، وتعطيل عمل الدوائر الخدمية وغيرها، فهذا ما يتنافى وحقنا الدستوري، مهما كانت تلك الممارسات سلمية.
المهام التشريعية والرقابية لمجلس النواب تحتم عليه أن يكون صمام الأمان بين السلطة والمجتمع، لا أن يعالج الأزمة بأزمة، فمهما كانت شرعية اعتصام النواب وإقالتهم لهيئة الرئاسة والمطالبة بتغييرها، فهناك مسؤولية ملقاة على عاتقهم، إذ بإمكانهم التغيير من مواقعهم إذا شكلوا أغلبية ذات مشروع وطني حقيقي، فالحكومات تنبثق من تحت قبة البرلمان وكذلك القوانين، والفساد يعالج من خلال مجلس النواب بمساءلة المفسدين وإحالة ملفاتهم للقضاء، وإذا كان هناك تقصير باختيار الوزراء والمسؤولين والسكوت على المفسدين فمصدره مجلس النواب، وكم من نائب تحكم ويتحكم بمؤسسات الدولة وعقودها وتنصيب المسؤولين فيها؟
وكم من نائب هو طرف في صفقات فساد وعقود مشبوهة؟
وكم من معتصم مطالب بتقديم شهادة نزاهة وحسن سيرة وسلوك؟
اسألوا أنفسكم قبل أن نموت كمداً نحن الساكتين.