لم يستمر الانقلاب التركي سوى ساعات حتى أعلن عن فشله، نعم فشلت المحاولة، ولذلك طبعاً أسباب وملابسات وظروف، مثلما للانقلاب أسبابه ودواعيه ودوافعه، وظاهرة الانقلابات العسكرية في تركيا العلمانية الديمقراطية بنسختها الأتاتوركية ليست بجديدة، ولطالما عدت المؤسسة العسكرية وصية أو حامية للنظام الديمقراطي ولعلمانيته، لكن هذه المرة ليس ثمة اتفاق واسع من قبل المؤسسة العسكرية على إسقاط أردوغان، وهذه المحاولة التي أسقطها دهاء أردوغان بوضع الجيش بمواجهة الشعب يمكن الخروج منها بعدة مؤشرات.
بداية كان هناك جمهور كبير خرج مناصراً للانقلاب، محتفياً بالقوات العسكرية التي انتشرت في المدن، وهذا يعني هناك رفض شعبي وعسكري لأردوغان، بالمقابل لدى أردوغان أتباع ومريدون سواء من عامة الناس أم من المنتمين لحزب العدالة والتنمية، لكن المؤشر الأهم هو خروج أغلبية الناس للحفاظ على الديمقراطية وليس حباً بأردوغان.
فالشعب التركي غير مستعد للتضحية بحقوقه، إذا ما توقف الأمر على أشخاص، والجيش الذي يعد نفسه حامياً للجمهورية غير مستعد هو الآخر أن يكون أداة لضرب الشعب، أردوغان طلب من أتباعه الخروج لمواجهة الجيش وكاد الأمر يتحول إلى مجازر دموية، لكن المهنية التي يتمتع بها الجيش، ولا علم لنا ممن كانت تصدر الأوامر، حالت دون ذلك، ففضلت القوات العسكرية الانسحاب على المواجهة.
نشهد بأن أردوغان نجح على المستوى الداخلي، لا سيما في التنمية الاقتصادية التي أنعشت تركيا بطفرات نوعية شهد لها العالم، وكاد ينجح في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وهو مطلب شعبي عمل عليه مبدئياً بتحييد المؤسسة العسكرية، باستقطاب بعض رؤوسها من جهة، وإبعاد آخرين من جهة ثانية، وهذه المحاولة الفاشلة ستتيح له فرصة ذهبية للتخلص من كل إعدائه، عسكريين ومدنيين، حقيقيين ومفترضين، حتى بلغ الأمر اعتقال الآلاف من العسكريين من مختلف الرتب، وإيقاف أكثر من (2700) من القضاة ممن يعتقد بولائهم لفتح الله غولن، لذلك لم يتردد كثيرون من الاعتقاد بأنها مسرحية مفتعلة لتصفية الحسابات بطريقة مبررة، وهناك إشارات لقوائم معدة مسبقاً.
مشكلة أردوغان خارجية أكثر منها داخلية، فالعديد من أجنحة المؤسسة العسكرية، وقوى المجتمع غير راضية عن السمة الإسلاموية التي تطغى على نهجه، إذ ما تزال النزعة العلمانية الأتاتوركية فعالة في المجمتع، لا سيما بين النخب العسكرية، وهو السبب ذاته الذي أطاح بعدنان مندريس في العام 1960، وأردوغان تفوق عليه بتصدير إسلامويته عبر تنظيمات الأخوان المسلمين إلى البلاد العربية، وقد وجد في الربيع العربي فجوة للتغلغل، بل اتسعت دائرة تدخلاته عبر بعض التنظيمات الإرهابية، مستغلاً الظروف الأمنية للمنطقة، بمعنى آخر هناك أكثر من اعتراض على سياساته الخارجية، والدليل على ذلك ما سمعناه إبَّان الساعات القليلة للانقلاب من أنباء بشأن إصدار أمر بانسحاب القوات التركية المتواجدة على الأراضي العراقية، واعتقال جرحى داعش الموجودين في بعض المشافي التركية، وهذان الخبران بالغا الأهمية يكشفان عن منهجية واضحة للانقلابيين، وجل ما يخشاه المجتمع الدولي أن يتخذ أردوغان من هذه المحاولة الفاشلة ذريعة لمزيد من التفرد والعثمنة.