ذكريات مريرة تلك التي نستحضر خلالها احتلال عصابات داعش الإرهابية لمدينة الموصل، والأمر منها استذكار مجزرة سبايكر بوصفها أبشع جريمة في التاريخ، إذ غطت على مجازر أخرى لا تقل بشاعة كمجزرة سجن بادوش، مسلسل طويل من الجرائم يقابله صمت إعلامي دولي، يشبه تماماً ذلك الصمت الذي خيم على العالم إبان جريمة حلبجة، أو خلال مسلسل المقابر الجماعية عندما قمعت أجهزة النظام الصدامي المباد انتفاضة محافظات الجنوب والفرات الأوسط وكذلك محافظات الشمال وامتدت لمناطق الوسط كالعاصمة بغداد وأجزاء من ديالى، وعلى المستوى المحلي لا يزال البعض يستكثر علينا الحديث عن تلك الجرائم التي طالت الآلاف من الأبرياء، بحجة كفانا حزناً ونبشاً في الماضي، لكن هل نملك إلا الحزن؟!
يروي الملحن محسن فرحان، ما مفاده:
إن وزير الإعلام الصدامي اجتمع أواخر السبعينيات بالملحنين وكتاب الأغنية، ليطلب منع جميع أغاني الحزن والتوجه لأغاني الفرح، لأن (ثورة البعث) كما زعم وفرت السعادة للشعب العراقي، ظناً منهم أنهم يطوون صفحات جرائمهم، وكان من بين الحضور الشاعر المرحوم جبار الغزي، يقول فرحان كان الغزي صامتاً على غير عادته ومشغولاً بكتابة أغنية على غلاف علبة السجائر، وحين خرجنا قال لي:
خذ اقرأ هذه الأغنية، لم أستطع فك خطه، فطلبت منه أن يقرأها لي، وإذا بها أغنية (يكولون غني بفرح وآنا الهموم غناي) التي لحنها للفنان قحطان العطار، وهي لا تزال واحدة من أعمق أغاني السبعينيات، ويبدو إن ثقافة إخفاء الحزن ثقافة بعثية متأصلة في ذهنية البعض، ولم لا؟
ما دام بعضهم يقول إن سبايكر تمثيلية لتأجيج الشارع الشيعي ضد السنة، مثلما قالوا عن ضحايا حلبجة أكراد خونة أدخلوا الإيرانيين إلى مدينتهم، وقالوا عن ضحايا المقابر الجماعية هذه عظام مقابر سومرية وبابلية قديمة!!
لست معنياً في هذا المقام بالأسباب والملابسات والعوامل التي أدت لاحتلال الموصل أو ارتكاب أبشع جرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والديني والطائفي والسياسي، منذ مجازر انقلاب 8 شباط الأسود الذي مرت علينا أيضاً ذكراه الهجرية في 14 رمضان حتى جرائم داعش القذرة في إبادة مختلف الأطياف العراقية من شبك وأيزيديين وتركمان، وسبي نسائهم وهتك أعراضهن وبيعهن في أسواق النخاسة على أيدي شذاذ الآفاق من أعراب المشرق والمغرب، مروراً بكل الجرائم التي لم تنتهِ عند سبايكر وبادوش والسيارات المفخخة والانتحاريين، نهايك عن جرائم البعث الصدامي، لكنني بصفتي مواطناً لا أكثر ولا أقل أتساءل: من أين جاءت كل هذه الوحشية؟!
كيف تكرست وترسخت كل هذه الكراهية؟
لمَ كل هذا الحقد؟ لمصلحة من؟ من أجل ماذا؟
وما غاية البعض من الحيلولة دون مواجهة هذا العنف وتوثيقه وتفكيك بنيته، لم يعترضون على البحث في جذور هذه الدموية التي تتلبس البعض؟
هل هي عقيدة يدافعون عنها بجملة من التبريرات والذرائع وطي الصفحات السود لترسيخ الاستبداد وقمع الآخر كأمر واقع؟! أم ماذا؟