منذ تأسيسها في العام 1921 والدولة العراقية تعاني من اختلالات بنيوية جعلتها هشة ومتردية وعرضة للانهيارات، بل إنها لم توفق في صناعة نهضة حقيقية، كانت هناك بدايات سرعان ما تنقطع، فالبداية الأولى كانت مع النظام الملكي وتمت مقاطعتها بعدة محاولات انقلابية وفورات واحتجاجات تخللتها أعمال عنف، والملكية لم تكن بالمستوى المثالي الذي يتخيله البعض، ممارسات ديمقراطية صورية، وارتباطات بأحلاف مشبوهة ترهن مستقبل البلد، وعوامل تردٍ كثيرة جعلت من انقلاب 14 تموز 1958 مسوغاً في ظل تصاعد الحركات القومية وانعقاد الأمل على ما سمي بحركات الضباط الأحرار، بمعنى آخر إن حركة الزعيم عبد الكريم قاسم ومن معه جاءت ضمن سياقها التاريخي والسياسي، ولم تكن بالسوء الذي تحدث عنه البعض، ولا بالنهضوية التي يتعصب لها البعض، كانت لها سيئاتها وحسناتها، إذ لا يمكن إنكار نزاهة قاسم وشعبيته ومنجزاته، فقد نجح؛ وهو العسكري، بتشكيل حكومة تكنوقراط مدنية لا غبار عليها. قضية مقتل العائلة المالكة الذي يوظفه البعض للنيل من شخصية قاسم أو التقليل من شأن منجزه الكبير مقارنة بالمدة التي حكم فيها وبما قدمه اللاحقون له، كانت لحظة عصاب سببها ربما شخص واحد يدعى عبد الستار العبوسي، ولو كان الأمر بيد قاسم لأتاح لهم فرصة مغادرة البلد، لكن ساعة الانقلاب كما يمكن أن نتصورها لم تكن بالخطة المدروسة التي يمكن خلالها اتخاذ قرارات عقلانية هادئة، رافقها هياج شعبي وردات فعل متوترة، سواء من الفقراء المهاجرين من الأرياف المعبئين ضد الملكية بوصفها الراعية والحامية للإقطاع، أم من القوميين واليساريين على ما قامت به الملكية ضد بعض الرموز.
إن كلا الحقبتين توفرت على الكثير من فرص النهوض، لو قيض لإحداهما الاستمرار، لا سيما بعد ثورة البترول في السبعينيات التي لم يستثمرها نظام البعث، بل على العكس من ذلك وفرت له منافذ ومسوغات للاستبداد والتفرد والطغيان وخوض الحروب العبثية، ففي الوقت الذي كانت فيه دولة البعث ترفع شعار الاشتراكية، كانت هناك دويلة رأسمالية بعقلية إقطاعية تتشكل من صدام وأزلامه، فبدلاً من توظيف واردات النفط لثورة نهضوية حضارية عمرانية وثقافية واقتصادية، تم توظيفها في حروب لا غاية لها سوى إرضاء هوس الدكتاتور وأحلامه المريضة كأي عقلية إقطاعية تفكر ببسط نفوذها على الجميع.
انقلاب(8 شباط) كانت بدايته الأسوأ والأكثر دموية بسبب جرائم الحرس القومي، لكن لا ننكر الهدوء الذي شهده البلد على أيام عبد الرحمن عارف، وملامح المدنية التي بدأت تدب في مفاصل الدولة، كنا على وشك أن نتحول إلى نظام حكم وظيفي، الرئيس فيه موظف يؤدي واجبه ويغادر إلى بيته بعد انتهاء الدوام، ولا أظن بأن حقبة البعث تحتاج إلى تنويه بعدما حفظ الشعب العراقي مساوئها عن ظهر قلب، لكن ونحن نراجع ونحاول تقويم الحقب السياسية السابقة علينا أن نعي الحاضر وندرك مساوئه ونستشرف المستقبل مقارنة بما استنتجناه من ماضينا القريب.