سأترك جانباً السياسة والاقتصاد وحق تقرير المصير وسيادة البلدان وأمنها القومي وتقسيمها وإضعافها وكل ما يتعلق بقضايا انفصال بعض المكونات بدويلات عن الوطن الأم، فألمانيا اليوم هي أقوى من ألمانيا قبل سقوط جدار برلين، وروسيا الاتحادية هي أقوى من جمهوريات الاتحاد السوفياتي الأخرى، كما أن أوروبا الشرقية هي أضعف مما كانت عليه سابقاً بصرف النظر عن نوعية الأنظمة، فضلاً عن أن أجزاءها الحالية خاضت بأنهار من دماء أبنائها الأبرياء ممكن كانوا حطباً لحروب التقسيم، سأترك كل هذا وذاك وأركز على قضية واحدة تتشعب منها عدة قضايا، هي دعوى الانفصال الكردي لإقامة دولة مدنية ديمقراطية، أي مدنية هذه التي تنطلق من عزلة عرقية منغلقة طاردة للآخرين؟! وأية ديمقراطية تلك التي تدعو لقيام دولة من طيف واحد ونمط ثقافي واحد؟! على المستوى الثقافي العام لا أستطيع تأطير صورة ثقافية عامة لأسبانيا من دون برشلونا وريال مدريد، فكرة القدم اليوم جزء من ثقافة العصر، كما لا يمكن فصل الأدب المكتوب باللغة الكتلونية عن الأدب الأسباني قديماً وحديثاً، كما لا يمكن أن نتصور النحو العربي من دون سيبويه الفارسي، أو الشعر العباسي من دون أبي نواس، وحتى بعض المفكرين والمفسرين وأئمة المذاهب من أصول غير عربية، ونفتخر بأن أمير الشعراء من أصل كردي عراقي، وكذلك أحمد أمين وعباس محمود العقاد ومحمود المليجي من أصول كردية، ولا يمكن فصل الشاعر الراحل بلند الحيدري كردي الأصل عن حركة الحداثة الشعرية العراقية أو العربية، وهل يمكن أن نحذف عن ذاكرتنا الثقافية شيركو بيكه ز، أو عبد الله كوران، أو نمحو عن ذاكرتنا أسطورة كاوة الحداد وشعلته وانتصاره على فريدون الضحاك وأعياد نيروز، بل لا يمكن أن نستأصل مجازر حلبجة والأنفال بوصفها جزءاً من تاريخ الظلم الذي طال جميع العراقيين.
لا يمكن لمجتمع متحضر يعيش في كنف دولة يراد لها أن تكون مدنية ديمقراطية وهو على صورة أحادية، فهل يمكن للكرد أن ينسوا طاقية شاعر العرب الأكبر الجواهري؟! وهل يمحون عن ذاكرتهم السياب والبياتي ونازك؟ هل يمكننا أن نتصور المسرح العراقي من دون محيي الدين زنكنه؟ العراقيون لم يتعاملوا مع الكرد على أساس عنصري، وحتى السياسات التي عانى منها الأخوة الكرد كانت في الغالب ذات طابع سياسي لمحاربة النزعة الانفصالية، وتحت ذريعة التآمر مع القوى الخارجية، ليس في ثقافتنا العربية سنة وشيعة أي ملمح لكراهية الكردي، فلا مبرر لنفرط بموروث ثقافي متلاقح تاريخياً من أجل صورة سياسية مفترضة، ولكن لندافع جميعاً عن حق العراقي وحريته واستقلاليته واحترام خصوصياته الثقافية في بلد يمكن أن يشكل كياناً سياسياً متكاملاً اقتصادية وثقافياً من خلال التعددية، تجمعنا فيه هوية انتماء رمزية ندافع عنها ضد الآخر الخارجي لا أن نتقاتل- لا سمح الله- من أجل تمزيقها.