منذ الغزو الصدامي للجارة الكويت والعلاقات العربية العراقية مرتبكة عموماً وشبه منقطعة مع دول الخليج، لا سيما العربية السعودية، وكنا نأمل أن تسهم عملية تغيير النظام وإقامة دولة ديمقراطية مسالمة في طي صفحات الماضي وفتح صفحات جديدة مع محيطنا العربي الذي لا غنى لنا عنه ولا غنى له عنا، وهذا ليس شعاراً عاطفياً، إنما أعني الجوانب الاقتصادية والسياسية والثقافية والاستراتيجيات الأمنية لبلدان المنطقة، لكن شاءت الظروف أن تبقى العلاقة مع الجارة السعودية قلقة بين مد الفتور وجزر الخلاف، ولم تفضِ الكثير من المساعي إلى ما يضع حداً لذلك من دون أي مبرر، على الرغم من العودة الخجول للعلاقات الدبلوماسية وتبادل السفراء وبعض الزيارات الرسمية وشبه الرسمية، لكن العراق ظل مخلصاً وساعياً لإقامة علاقات متوازنة مع الجميع، لا سيما دول الجوار، وإذا ما نظرنا لملف العلاقات العربية العراقية بواقعية فسنجد أن غالبية الدول العربية هي التي ابتعدت عن العراق بسبب وبدون سبب وبحجج غير واقعية، بل إن الصراع الداخلي الذي شهدته العملية السياسية قد انعكس بصورة سيئة حتى راحت بعض الدول تتعامل مع المكونات لا مع الدولة، وكأن طبيعة العلاقة مع هذا الطرف شرط للعلاقة مع الآخر.
إن عراق اليوم المحرر من تركات الأمس لهو عراق آخر، غير الذي كانت تحتل عصابات داعش الإرهابية ثلث أراضيه، فقد حاز بانتصاراته المتلاحقة على ثقة الجميع، وتناغمت الانتصارات العسكرية مع انتصارات أخرى على المستويات السياسية والدبلوماسية الخارجية والداخلية، ولعل إدارة ملف استفتاء إقليم كردستان قد سجل انتصاراً إضافياً، لا لجهة على حساب أخرى، بل للدولة العراقية وهيبتها وسيادتها، وللشعب العراقي بكل أطيافه، وكل هذا فرض على المجتمع الدولي عموماً رؤية جديدة للتعامل مع العراق بوصفه دولة وليس مكونات متصارعة كما في السابق، الأمر الآخر هو أن الرؤية الواقعية التي تعامل بها السيد رئيس الوزراء كانت عملية (برجماتية) حددت مسبقاً الجانب الحيوي الذي يمكن من خلاله معالجة العديد من مشكلات المنطقة، ونعني به الجانب الاقتصادي التنموي الذي يمكن أن يجمع المنطقة على مصالح مشتركة لمواجهة المتغيرات والمخاطر، لا سيما مخاطر الإرهاب، فقوة السلاح ليست كافية للقضاء على الإرهاب وتجفيف منابعه، وإنما نحتاج إلى نهضة تنموية تحصن مجتمعاتنا وتؤمن لها العيش الكريم. إن السعودية ومصر والأردن ودول أخرى وصلوا إلى نقطة التقاء واقعية مع العراق، لأن خروج العراق منتصراً بأوقات قياسية ومعالجة الأزمات الآنية والمستديمة بحلول ناجعة مع ترسيخ الوحدة الوطنية، قد أعطى انطباعات مغايرة لما كان يتوقعه البعض أو يخطط له البعض الآخر لمرحلة ما بعد داعش، فلم يبقَ مبرر لأحد، وقد تبددت مخاوف الجميع، وتكشفت الصورة الحقيقية للعراق والثقة بقدراته بكونه مرتكزاً لأمن المنطقة وسلامها، ما لم نقل لأمن العالم بعد تحطيمه لأسطورة داعش.