ورد في معاجم اللغة بأن لفظة التظاهر تعني التعاون والمظاهرة تعني المعاونة، واللفظتان تفضيات لمعنىً أخلاقي واحد، فقد تظاهر العراقيون أو تعاونوا على أمر واحد هو الاحتجاج على واقع الخدمات، لا سيما الكهرباء التي أصبحت الشغل الشاغل لكل العراقيين، بسبب موجة الحر التي تجتاح البلاد، وهذا لا يعني بأن بقية الخدمات قائمة بصورة مثالية، لكن الكهرباء تحديداً ومن ثم الماء، لا يقوم منزل بدونهما ولا حياة لأسرة بغيرهما، فإن صادف انقطاعهما في وقت واحد فحدث ولا حرج.
المظاهرة التي خرجت مساء يوم الجمعة الموافق 31- تموز في ساحة التحرير ببغداد متناغمة مع مظاهرات مشابهة في محافظات أخرى، كانت في تقديرنا، بمنتهى المثالية، لا لسلميتها فحسب، وإنما لمدنيتها ولا حزبيتها، وموضوعية شعاراتها، ورفعها علماً واحداً هو علم العراق، وخلوها من المتهورين والمندسين- كما يحذر المسؤولون دائماً- ففي مظهرات العام 2011 اتصل بي أحدهم ليسأل عن تصوري، فقلت له: ضعوها في إطارها الدستوري، التظاهر حق مكفول، استمعوا للمطالب ولبوها بأسرع ما يمكن ذلك، وكونوا مع المتظاهرين لا ضدهم، فقال هذه هي خطتنا، لكن لدينا معلومات عن وجود مندسين.
فقلت له قادة المظاهرة والداعون لها غالبيتهم مثقفون وفنانون وإعلاميون مسالمون، قوموا بحمياتهم من المندسين، لكن يبدو بأن الخطة تغيرت آنذاك.
مظاهرة ساحة التحرير هذه المرة كانت غاية في التحضر، وأجمل ما فيها قوات الأمن الذين تحولوا إلى جزء من المظاهرة، يفتشون بيد لحماية المتظاهرين ويناولون باليد الأخرى قناني الماء ليبل الصادحون بالهتافات أرياقهم، هكذا هي علاقة المواطنة الحقة بين المواطن الذي يعبر عن رأيه وسلطة الأمن التي تحميه وتساعده في قول ما يريد بأسلوب سلمي تسوده روح المحبة والطمأنينة، فهذا مواطن عراقي يعبر عن رأيه، وهذا مواطن عراقي آخر واجبه يحتم عليه حمايته، بل إن رجل الأمن في هذه المظاهرة كان لديه شعور أكيد بأن هذه المطالب تعبر عن رأيه أيضاً، فمن منا لا يريد القضاء على الفساد والمفسدين؟ ومن منا لا يريد تحسن الأداء الخدمي بصورة عامة؟ من من لا يريد إنقاذ أسرته من الحر اللاهب بنعمة الكهرباء؟ من منا لا يريد الأمن والأمان والسلام ودحر الإرهاب؟!
المتظاهرون لم يطالبوا بعصاً سحرية تذيب الفساد وتقبض أرواح المفسدين وترفع مستوى الأداء الخدمي بليلة وضحاها، فهم يعون قبل غيرهم ما يمر به البلد من أوضاع أمنية واقتصادية طارئة، لكن الوقوف بوجه المفسدين واجتثاث الفساد المعشش في الزوايا المظلمة لمؤسسات الدولة ليس بالأمر المستحيل، ونؤكد بأن بعض الإرهاب يتمول بالفساد، وسوء الخدمات سببه الفساد، وتعطيل الكفاءات سببه الفساد، وهجرة العقول العراقية سببها الفساد، والخروقات الأمنية سببها الفساد، وخراب البلد عموماً سببه الفساد، فهل من معترض أو خائف من مندسين بين متظاهرين ضد الفساد؟!