سياسة التوافق كما أثبتت التجربة هي المنفذ الوحيد لحل المشكلات السياسية، بمعنى آخر نادراً ما يحتكم ساستنا للآليات الديمقراطية المتعارف عليها، والتوافق يحتمل عدة نتائج، فقد يتم التوافق أحياناً على حساب رأي الأغلبية، وقد يتم تلبية لمصالح ذاتية أو جهوية ضيقة، ولا نغالي إذا قلنا إن التوافقية على المناصب جاءت بأشخاص غير كفوئين ووضعتهم في مناصب ليسوا مؤهلين لها خبرة وتجربة وتحصيلاً علمياً ونزاهة، بل إن الكثير من قضايا الفساد سببها المحسوبية التي أوجدتها التوافقية والمحاصصة في اقتسام المكاسب والمنافع، ويبدو لا مهرب من التوافقية، وسيسعى كثيرون لتكريسها بعدما أصبحت عرفاً سياسياً، لقد توافق سياسيونا على الكثير من القوانين والقرارات بعد مماطلات كثيرة، ففي غالبية القوانين التي أقرها مجلس النواب كان هناك من يعترض ويعرقل وينتقد ويفسر ويؤول، لكن في النهاية يتم التوافق.
سنسلم أمرنا للتوافق، وننتظر إقرار الموازنة الاتحادية للعام الحالي، كما كل سنة، بعدما تم التوافق مبدئياً على قانون الانتخابات، ومثلما تم التوافق على الكثير من القوانين، ولنفترض بأننا لا نملك أية حلول أخرى غير التوافق، ماذا بشأن المواطنين؟ فالسياسيون يتوافقون ويتفقون ويقتسمون على طريقة هذا لك وهذا لي، فماذا عنا نحن المواطنين؟ ألم يكن لنا رأي؟ هل انعكست التوافقية على حياتنا؟ وهل التوافقية حققت الثقة المتبادلة بيننا وبين السياسيين من جهة وبين بعضنا البعض من جهة ثانية؟ هل سنعكس أخلاق الساسة ونقتسم الحياة العامة ونختلف ونتصارع على شؤون حياتنا ريثما نتوافق؟ هل أن آلية التراضي تحقق العدالة؟
ما دور القوانين إذاً؟ أين مفهوم الديمقراطية من كل هذا؟
كيف نصل إلى مشتركات التعايش من دون مواطنة حقيقية تضمن حقوق الجميع وتملي على الجميع واجبات إلزامية؟ كاحترام الحريات والمعتقدات والانتماءات، وكيف يتحقق ذلك في ظل العشائرية التي تهيمن على مجتمعاتنا؟ كيف يتحقق ذلك في ظل هيمنة بعض العصابات التي تدعي الانتماء لهذه الجهة أو تلك؟ وتحاول أن تفرض إرادتها خارج أسس القانون؟
أعتقد أن المصالح النفعية المشتركة خير ما يحقق التعايش السلمي بين أفراد المجتمع، فإذا ما دخلنا لأي سوق تجاري فسنجد فسحة من التعايش توفرها المصالح التجارية المشتركة، إذ تنتفي الحاجة للتعامل الفئوي أو الطائفي أو العرقي، كان سوق الشورجة الذي يمول أسواق العراق خليطاً من المسلمين الشيعة والسنة واليهود والمسيحيين والصابئة والأيزيديين والأرمن والكورد والفيليين والشبك تجاراً ومتبضعين، بل كان هناك عرب فلسطينيون وسوريون وفي السبعينيات دخل المصريون، ولا أحد يعنيه على أي دين أو مذهب أنت، وكذلك الأمر في الجيش وفي دوائر الدولة وفي المدارس والجامعات، لكن حين يصار إلى تقسيمات غير معلنة بعزل مكونات الشعب ترغيباً وترهيباً وتتحول الأحادية المناطقية سواء بحسب المحافظات أو المناطق أو المؤسسات، فتلك معضلة بحاجة إلى مواجهة حقيقية، ألا تتفقون معي بأن التنوع بدأ ينحسر في حياتنا؟!