دوناً عن بقية الشعوب العربية يعاني الشعب العراقي، بحسب الحقب السياسية التي يمر بها، من شتى أنواع النعوت والاتهامات، فمرة نحن أبطال لأننا ورطنا بحرب الجارة إيران على مدى ثماني سنوات، ومرة نحن غزاة ولصوص ومجرمون لأننا ورطنا بغزو الجارة الكويت، ومرة نحن خونة وعملاء لأننا استبشرنا خيراً بسقوط النظام الدكتاتوري، ومرة نحن كفرة ومشركون وعبدة أصنام، ومرة صفويون ومجوس ولسنا عرباً، وما أن يعرف العربي بكونك عراقياً حتى يبادرك بأكثر الأسئلة سخفاً: هل أنت شيعي أم سني؟ هذا إن لم يقل لك شيعي أم مسلم؟
على أيام دخول القوات الأميركية للعراق وانهيار النظام الصدامي، عرضت مختلف القنوات الفضائية أفلاماً وتقارير عن المقابر الجماعية، بعضهم علق بكل ثقة بأنها جثث لمقابر قديمة سومرية أو بابلية، لكن الأدهى من ذلك ردة فعل سائق التاكسي الذي ركبت معه من مدينة زوارة إلى العاصمة الليبية طرابلس، فقد سألني عن وضع العراق، وكان ردي أننا تحررنا من الظلم والطغيان والاستبداد، أوقف سيارته وطلب مني النزول في منتصف الطريق، ممتدحاً المقبور صدام بوصفه بطل الأمة، فقلت له يا شيخ ألم تشاهد المقابر الجماعية؟ قال أولئك خونة إلى قير وبئس المصير، فقلت له أيعقل أن يكون الشعب العراقي كله خونة ويكون صدام الوطني الوحيد؟ قال نعم كلكم خونة لأنكم بعتم صدام، ولم أتخلص من إصراره على نزولي من سيارته إلا بعد تدخل أحد الليبيين الذي قال له يا رجل هو أعرف مني ومنك ببلاده، ما دخلك أنت؟!
متى نتخلص نحن العرب من هذا الإرث؟
إرث الكراهية والتخوين والاتهامات الجاهزة؟
عادة ما يعاملنا العرب بحسب مواقف حكوماتهم من حكوماتنا، وبحسب ما تشيعه وسائل الإعلام المغرضة، ففي تونس اتهمني أحدهم بكوني عميلاً للأميركان، وكان يفخر بنظامه وقائده زين العابدين بن علي، وما هي إلا أيام وإذا بجنة عدن تنتهي بهروب القائد على متن طائرة محملة بأطنان الذهب، وفي ليبيا اتهمني البعثيون بكوني عميلاُ لإيران، هذا عندما أراد أتباع القذافي تأسيس تجمع لإشاعة فكر القائد وكتابه الأخضر الذي سرعان ما مرغوه بالوحل، وفي السعودية أطلقوا علينا أنواع الشتائم واللعنات بسبب إعدام المجرم صدام.
هذه التركة تسربت على ما يبدو من محيطنا العربي إلى داخل العراق، فما أن يقترب موعد الانتخابات حتى تبدأ عجلة التخوين والاتهامات بالعمل في سرعتها القصوى، وتبدأ عمليات التسقيط الفردي والجماعي، تسقيط يطال شخصيات سياسية ودينية وثقافية وإعلامية، وتسقيط يطال مكونات وأحزاب ومحافظات ومدن وأحياناً عشائر، هذا عميل وذاك فاسد، وهذا طائفي وذاك عنصري، هذا علماني وذاك إسلاموي، ووسط هذه المعمعة لا يتاح للناخب الاطلاع على أي برنامج انتخابي، أو أية رسالة مفيدة تكون دليلاً حقيقياً لاختياراته، إذ تطغى لغة التسقيط سراً وعلانية على كل خطاب.