منذ سقوط النظام الدكتاتوري في نيسان 2003 حتى اليوم خضنا العديد من التجارب الانتخابية، بدءاً من الاقتراع على الجمعية الوطنية أو ما سمي بالبرلمان المؤقت، ثم الاقتراع على الدستور الدائم، والاقتراع على أول برلمان عراقي لمدة أربع سنوات، وسرت عمليات الاقتراع على اختيار مجالس المحافظات والمجالس البلدية، على أن العراقيين سبق لهم أن خاضوا تجربة الانتخابات منذ العام 1925 إبان الحكم الملكي حتى سقوطه في تموز 1958، كما خاضوا بعض التجارب الصورية على أيام النظام الشمولي في انتخابات ما سمي بالمجلس الوطني، ولا يمكن عد التجارب الهزيلة التي خاضوها في اختيار الدكتاتور المقبور لأنها لا تمت بصلة لأسس الديمقراطية، وبصرف النظر عن مدى نجاح تلك التجارب من عدمه، وما رافقها من خروقات، وهذا يحصل في مختلف التجارب المتقدمة، إلا أنها كانت تجارب مهمة وضرورية، جعلت المواطن يتعلم على أقل تقدير أن يعيش أجواء الديمقراطية، وأن يتعاطى مع الدعايات الانتخابية وصناديق الاقتراع ويحدد خياراته ويمارس حقه ويحافظ عليه، لكن للأسف الشديد لم تحقق تلك التجارب ثقافة متراكمة، ليس لدى الناخبين فحسب، وإنما لدى الكتل السياسية نفسها التي تدير دفة الحكم.
فإذا ما أمعنا النظر في التوزيع العشوائي للدعايات الانتخابية سنتأكد من أن الكتل السياسية ما تزال تعتمد الأساليب الارتجالية الآنية بدون أي تخطيط أو مراعاة لجوانب الذوق العام والبيئة والممتلكات العامة، كما أنها لا تراعي قوانين الدعاية، إذ تعتمد على وسائل بدائية لا علاقة لها بالديمقراطية كشراء بطاقات الناخبين كما يشاع، أو إقامة الولائم والمهرجانات سيئة التنظيم، وتوزيع الهدايا العينية والنقدية مع فرض أغلظ الأيمان، وإلقاء الخطب الرنانة المملة، والاستقطاب الحزبي والعشائري والطائفي بمضامين عاطفية سمجة خالية من أية برامج واضحة وواقعية، وعود استهلاكية يكررها الجميع، ربما أقيمت بعض المناظرات هنا وهناك لكنها لم تشكل ظاهرة، ولم تصل أغلبية الناخبين إلى مستوى الحجة بالبرامج الانتخابية، إنما يتجهون بصورة انفعالية إلى من يتبعونه من الزعماء أو الكتل بتعصب غير مبرر.
الغالبية العظمى من الناخبين لم تتدرب بعد، برغم التجارب العديدة، على اختيار من يقتنعون ببرنامجه الانتخابي، فالبرامج تكاد تكون واحدة، وما هي إلا وعود تصطدم عادة بمصدات الواقع السياسي الذي بني على أساسات هشة من المحاصصة وتقاسم السلطات وغياب المعارضة الحقيقية والمشاريع الوطنية الجامعة، وهذا يتحمله الساسة أولاً، يتحمله البرلمان نفسه، وإلا ما معنى أن يعطل قانون الانتخابات ولم يقر إلا ونحن على أبواب الانتخابات؟!
وما معنى أن يتم اختيار مفوضية الانتخابات على أساس المحاصصة الطائفية؟ وما معنى أن تفصل القوانين على مقاسات المصالح الحزبية والطائفية والذاتية أحياناً، فبمجرد أن تمر بأي شارع في أية مدينة عراقية وتتأمل فوضى الإعلانات وعمليات التشويه والتمزيق والتجاوزات على الحق العام والبيئة والفضاء البصري للمدينة، ستتذكر الفيلم المصري الشهير (هيَّ فوضى؟).