مؤشران مهمان أنتجتهما الانتخابات،
الأول: المقاطعة التي أحدثت متغيرات جذرية في خريطة الفائزين،
والثاني: الفقراء الذين حققوا التقدم على كل القوائم،
وهذان المؤشران يعدان دليلين على أهمية الديمقراطية في رسم حياة الإنسان وصناعة نظام الحكم الذي يرغب به، المقاطعون ليسوا معترضين بالضرورة على النظام الديمقراطي فكراً وممارسة، وإنما أرادوا التعبير عن احتجاجهم ضد المفسدين والمحاصصة وقانون الانتخابات وسوء الخدمات وكل ما أحاط العملية السياسية من إشكاليات، أما الفقراء الذين شكلوا رقماً مؤثراً، فهم من وضعوا تحالفي (سائرون) و (الفتح) في المقدمة، بعدما امتنع غالبية الطبقة الوسطى والمدنيون وبضمنهم الفقراء أيضاً عن المشاركة في عملية الاقتراع، فسائرون تضم عناصر مختلفة من أتباع التيار الصدري واليسار والمدنيين الليبراليين ممن جمعتهم ساحة التحرير في الاحتجاجات التي تجاوزت الأسوار العالية للمنطقة الخضراء وعبرتها وصولاً إلى منصة البرلمان، وهؤلاء قدموا وعوداً في الإصلاح مقرونة بإجراءات سياسية اتخذها السيد مقتدى الصدر ضد بعض أتباعه ممن حامت حولهم شبهات فساد ولم يكن أداؤهم بالمستوى المطلوب، وهذا وحده كافٍ لإقناع الجماهير الفقيرة الغاضبة وكافٍ لتبادل المصداقية معهم، والفقراء أنفسهم كانوا مصدر الحشد الشعبي الذي مثل جزءاً منه تحالف (سائرون) وبصورة واسعة مثله تحالف (الفتح).
خسارة بعض الوجوه المكررة وانحسار المد الشعبي لبعض الكتل السياسية التي شكلت حجر الزاوية في إدارة العملية السياسية، منذ قيامها بعد سقوط النظام الدكتاتوري، دليل عافية ديمقراطية عبرت عن إرادة الأغلبية، والأغلبية بحسب نسب المشاركة مثلها المقاطعون، وبعدهم مثلها الفقراء، سواء كانوا مؤدلجين أم مستقلين، لكن هناك تحفظات على مبدأ المقاطعة، مع أن عموم الانتخابات في العالم لا تحقق نسبة كاملة، إذ لا توجد انتخابات إلزامية إلا في بعض الدول كأستراليا وبلجيكا على سبيل المثال، وتحفظنا ينطلق من الحرص على ترسيخ قيم الديمقراطية، واتخاذ صناديق الاقتراع سبيلاً للتغيير، إذ كان يمكن للمقاطعين أن يزيحوا بعض الوجوه المستهلكة التي أسهمت بخلخلة العملية السياسية وعرقلت بناء الدولة، وذلك بفوز وجوه جديدة وكفاءات متميزة ونزيهة يمكن أن تسهم بخلخلة نظام المحاصصة.
نأمل بعد ذلك أن يستفيد بعض الساسة من الدرس، أن يكونوا مع مختلف فئات الشعب التي امتلكت إرادة التغيير، وأن يسارعوا لتشكيل حكومة وطنية على وفق معايير الكفاءة والتخصص والنزاهة، بعيداً عن آليات المحاصصة التي لم تعد تناسب تطلعات العراقيين في بناء بلد ديمقراطي قوي، وأن يضطلع البرلمان الجديد بمهام الرقابة الحقيقة بعيداً عن الانحيازات الجهوية والصفقات وتبادل المنافع، وأن تكون هناك رؤية حقيقية في تشريع بعض القوانين المهمة أو مراجعة القديمة منها، لا سيما قانون الانتخابات الذي تم التصويت عليه على عجل، والتأسيس لآليات مهنية نزيهة في تشكيل الهيئات المستقلة، والاتفاق على رؤية موحدة في السياسات الخارجية تحول دون أي تدخل، حفاظاً على أمننا القومي، فالمواطن لم يعد يحتمل المزيد.