ما نزال - نحن العراقيين- ندفع ثمن موقعنا الجغرافي بين أكبر امبراطوريتين في الشرق، كما ندفع ثمن السياسات المتهورة لحكامنا، فإذا ما راجعنا جميع اتفاقاتنا مع الجيران، فسنجدها جميعها لا تصب في مصلحتنا، أكثرها أبرمت في ظروف ليست في صالح العراق، أراضٍ حدودية قضمت من خريطتنا تحت دوافع سياسية أثناء الحرب مع إيران، حدود أخرى تم قضمها بسبب غزو النظام للجارة الكويت، اتفاقية الجزائر أبرمت ثمناً لوقف الدعم الذي كان يقدمه شاه إيران للكرد، معاهدتا أرض روم الأولى والثانية ليس هناك يد للعراق فيها، فقد أبرمتا بين الدولتين العثمانية والقاجارية في إيران، وعلى ضوئهما ترسمت الحدود العراقية، في سبعينيات القرن المنصرم قطعت سورية مياه الفرات، بسبب خلافات سياسية، تركيا التي استنفدت حاجتها من نهر الفرات بعد إقامة العديد من السدود، شيدت على نهر دجلة أكثر من مئة سد، كما أن سورية تمكنت من تحصين وضعها المائي، بينما العراق الواقع تحت رحمة الآخرين، لا يملك أكثر من عشرة سدود على نهر دجلة، وربما يكون سد بادوش الذي بدأ العمل بإنشائه في التسعينيات بديلاً عن سد الموصل المهدد بالانهيار، هو آخر مشروع مائي لم يكتمل بناؤه، فلا النظام الدكتاتوري المباد الذي شغل العالم بحروبه، ولا النظام الديمقراطي الذي انشغل بتقاسم السلطات، ولا جيراننا، ولا المجتمع الدولي، فكروا بمصير هذا البلد الذي حذرت الدوائر المتخصصة من حلول كارثة بيئية تهدد أمنه الغذائي.
هل سنقول لك الله يا وادي الرافدين؟! أجدادنا السومريون والبابليون والآشوريون وجدوا أنفسهم في وادٍ بين نهرين عظيمين، يفيضان عكس المواسم، فبنوا حضاراتهم العظيمة من خلال صراعهم مع الطبيعة، أقاموا السدود والنواظم ومشاريع الري البدائية وشقوا الأنهار، ونأتي بعد آلاف السنين، برغم التطور التقني، وبرغم إدراكنا للمخاطر، نحول هذه الأرض التي تأسست عليها أولى الحضارات المائية، إلى أرض يباب، تنفق الطيور والأسماك على ضفافها، ويجف بين كثبانها الزرع والضرع.
تركيا تملأ سد إليسو يتحول دجلة إلى جادة طينية تعبره مشياً على الأقدام، من ناحية أخرى تمسك إيران بمصب الزاب الصغير وتتسبب بأزمة في محافظة السليمانية، كما تفعل الشيء نفسه بقطع مصبات أنهار وأهوار وبحيرات، تركيا تتحجج بكونها أبلغت العراق قبل عشر سنوات، وطلبت من الجهات المعنية أن تتهيأ لمثل هذا اليوم بتخزين احتياطي كافٍ ببناء سدود وبحيرات ومشاريع، لكن العراق الذي أصبح بين مطرقة الإرهاب وسندان الفساد، لم يجد متسعاً من الوقت لبناء سد واحد، ومن المتوقع أن تتحول أزمة المياه إلى نزاعات عشائرية وسياسية بين المحافظات، وليس بعيداً أن تكون هناك مياه كردية وأخرى عربية وثالثة تركمانية، أو مياه سنية وأخرى شيعية، ولكل أقلية مياهها، وسيتم تقاسم السدود القديمة، طالما أننا حتى هذه اللحظة نتعامل مع الأزمة بطرق آنية ترقيعية، لا بقررات أممية ولا بمشاريع استراتيجية.