في مثل هذه الأيام من العام 2014 اجتاحت عصابات داعش الإرهابية مدينة الموصل، في واحدة من أقذر الهجمات الوحشية الاستعراضية التي أحبطت الشارع العراقي وحطمت معنوياته، ومع الموصل أصبحت محافظات صلاح الدين والرمادي وأجزاء من ديالى وكركوك تحت سيطرة الغول الداعشي، لقد شكل ذلك اليوم الأسود انكساراً حقيقياً للعراقيين، خلت الشوارع من المارة وعم الوجوم، وراحت الأنباء تترى بتوجسات من مقولة (سنقاتل على أسوار بغداد)، فحزام بغداد لم يكن آمناً آنذاك، ثم حدثت جريمة سبايكر، بالتزامن مع جريمة سجن بادوش، اتهامات متبادلة وأصداء عالمية وإقليمية واسعة للحدث، وتفخيم إعلامي، والتفاف على الحقائق ممن روجوا للخطاب الطائفي، بعضهم عدها ثورة سنية ضد النفوذ الإيراني والحكومة (الصفوية)، وتحت شعار (قادمون يا بغداد) كان هناك تحشيد طائفي لاستقبال الدواعش.
كانت ردة فعل الشارع العراقي أقوى مما هو متوقع، فلا أحد يمكنه أن يزايد على ما شكلته فتوى الجهاد الكفائي التي صدرت عن المرجع الديني الأعلى السيد علي السيستاني، من تبلور حقيقي للإرادة الشعبية في إعطاء المعركة مع الإرهاب زخماً جديداً، طبعاً لا يمكن الاستهانة بقدرات قواتنا المسلحة بمختلف صنوفها، وقوى الأمن الداخلي والشرطة الاتحادية، لكن جميع تلك الأجهزة كانت حتى لحظة انطلاق الفتوى تحت تأثير صدمة الحدث، فشكلت فصائل الحشد الشعبي عامل دفع وتحفيز ويقظة، على مستوى المواجهة الميدانية، كما تبلورت رؤية شعبية واضحة لرفض داعش فكراً ومنهجاً ووجودا، وهذه الرؤية كانت كفيلة بتوحيد الصف الوطني، فلم يكن الحشد الشعبي حكراً على الشيعة كما أشاعت بعض الدوائر المغرضة، وإنما كان أبناء العشائر السنية جزءاً منه، وكذلك الأمر للمسيحيين والأيزيديين والشبك والتركمان، وحتى بعض الكورد في إطار التعاون الميداني.
المعركة مع الإرهاب تزامنت مع الأزمة الاقتصادية بسبب انخفاض أسعار النفط، ومع ذلك انتصرت إرادة شعبنا، كان هناك موقف دولي لا يمكن إنكاره، إلى جانب مواقف إقليمية مشرفة، تقابلها مواقف أخرى مداهنة ومراوغة وانتقائية، بل إن بعض القوى السياسية في الداخل العراقي كانت قد راهنت على ما أسمته بثوار العشائر في المحافظات المنتفضة، وراحت تصريحات ساسة الفنادق والمواخير تكذِّب من على شاشات الإعلام العروبي وتشكك بانتصاراتنا، مفتعلين زوابع بمقاطع فديو مفبركة أو مقتطعة من سياقات أحداث سابقة، كزوبعة الثلاجة وغيرها.
بعد الانتصارات الساحقة على داعش، صار الجميع يفكر بعراق ما بعد داعش، مثلما فكروا بدايةً بعراق ما بعد صدام، وما بعد البعث، ثم ما بعد القاعدة، فهل علينا أن نفكر اليوم بعراق ما بعد الحرائق، إذ تتزامن حرائق أكداس العتاد مع حرائق صناديق أصواتنا مع الذكرى الأليمة للغزو الداعشي، وربما سيأتي يوم لنفكر بعراق ما بعد الرافدين، إذا ما بقيت مياهنا تحت رحمة سدود تركيا، ثم عراق ما بعد العراق والله أعلم.