بالأمس مرت علينا الذكرى السادسة عشرة لسقوط صنم الدكتاتورية وسط بغداد، في واحدة من أندر اللحظات رمزية والتباسا، فتمثال الدكتاتور الذي احتل مكان الجندي المجهول السابق في ساحة الفردوس، كان يمثل بضخامته ثقل الهيمنة الكابوسية الجاثمة على صدورنا، وإسقاطه بطريقة مهينة من قبل قوات الاحتلال وسط ابتهاج المتجمهرين كان بمثابة لحظة للخلاص، كان فرحاً ممزوجاً بالدموع، ربما توقف العقل الجمعي العراقي للحظة تأمل وسط المعمعة، وأغلبنا ردد مع نفسه: أهذا كل شيء؟ ألهذا الحد كان النظام الدكتاتوري ضعيفاً وهشاً ومتداعياً؟ لقد ضاعت أعمارنا سدىً بين حروب ومجاعات ورعب، وإذا بكل ذاك الجبروت والآلة العملاقة تتهاوى بمجرد وصول دبابة أميركية إلى جسر الجمهورية، ألهذا الحد كان نظاماً كارتونياً ونمراً من ورق؟ لم يكن بمقدورنا إلا أن نعيش وقتاً من الازدواجية، بين إقرار منظمة الأمم المتحدة بكون القوات الأميركية هي قوات احتلال، وهو ما يستفز المشاعر الوطنية، وبين العمل على وفق المثل القائل عدو عدوي صديقي، كنا سعداء بإزالة أعتى الدكتاتوريات وانشغلنا بنبش ذاكرتنا الممتلئة بذكريات أليمة للقمع والتعذيب والاضطهاد والقتل والخوف، مثلما انشغلنا بنبش المقابر الجماعية التي خلفها ذلك النظام المقيت، بينما انشغل الحاكم المدني برايمر الذي أعقب غانر بإعداد طبخة مجلس الحكم على وفق التركيبة الاثنية والطائفية، وهي أسوأ مشروع رسخ مبدأ المحاصصة التي باتت عرفاً سياسياً لا فكاك منه على المدى القريب، وبين يوم السيادة والمطالبة بخروج القوات المحتلة وكتابة الدستور والإعداد للانتخابات النيابية، كانت ثمة بوادر عنف بدأت تندلع هنا وهناك، تطورت فيما بعد لتصبح حرباً أهلية كادت تطيح بالبلاد لولا العناية الإلهية وإرادة العقلاء والشرفاء من أبناء شعبنا.
تدخلات لا حد لها، سواء من محيطنا العربي والإسلامي أم من مختلف بلدان العالم ذات المصالح الاستراتيجية في العراق، جماعات مسلحة بدأت تندلع وتتناسل لزعزعة أمن البلاد، رفض عربي وإسلامي للنظام الجديد، صراعات على المكاسب والمناصب يوازيه صراعات على النفوذ حتى أصبحنا ساحة لصراعات إقليمية ودولية، وكل القصة معروفة بتفاصيلها حتى اختتمت بداعش التي احتلت ثلث البلاد وكان مقدراً لها أن تتمدد لولا الإرادة العراقية، وربما ما يزال السؤال قائماً في أذهاننا.. ماذا بعد كل ذلك؟ كان حلماً جميلاً بددته عوامل شتى، تبدأ من أخطاء الأميركان والسياسيين مروراً بالتردي الأمني والتدخلات الخارجية والطائفية والمحاصصة والإرهاب والفساد، وليس أمامنا سوى الأمل.
كلنا نعرف أن للعلاقات الخارجية مع دول الجوار وسواها أثراً في استقرار عراق ما بعد الدكتاتورية، وبحكم عوامل كثيرة أهمها اختلاف المصالح وتضاربها وتنوع الولاءات والمصالح والميول وضرورات التوافق أصبح محتماً على الحكومة الإمساك بالعصا من الوسط والعمل على إقامة علاقات خارجية توافقية أو توفيقية من أجل الاستقرار، وهذا يتوقف على الآخرين في استيعاب هذه المعادلة بعد كل ما دفعناه من أثمان باهظة في زمن الدكتاتورية وبعدها.