مما لا شك فيه أن روسيا هي الوريث الشرعي للاتحاد السوفياتي، وهي جاهدة في البقاء بوصفها قطب الصراع الثاني مقابل أميركا، أي البقاء على معادلة الحرب الباردة وموازناتها التسليحية وتقاسم النفوذ، لكن بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانفراط عقد جمهورياته، وقبلها سقوط جدار برلين، ثم خروج أوربا الشرقية عن الطوق السوفياتي، وقبلها انسحاب الجيش الأحمر من أفغانستان، وخلال ذلك كان ما يسمى بحلف وارشو يخسر العديد من مواضع نفوذه، بالمقابل خسرت أميركا أهم وأقوى حلفائها في الشرق الأوسط، وهو من كان يسمى بشرطي الخليج(نظام شاه إيران)، وهذا ما جعل الإدارة الأميركية تحتفي بعودة العلاقات الدبلوماسية مع العراق منتصف الثمانينيات، إلى جانب دعمها للعراق في حربه مع إيران سواء بصورة سرية مباشرة أم عن طريق حلفائها الخليجيين. أما اليوم فقد حل النفوذ الأميركي محل النفوذ الروسي في العراق بعد غزوه وإسقاط النظام الدكتاتوري، وهي ساعية لتبسط نفوذها على ما تبقى من مناطق النفوذ الروسي في اليمن وليبيا وسوريا بسعيها لإسقاط نظام بشار الأسد ودفع حلفائها ممن تطلق عليهم المعارضة المعتدلة للتحكم بمقدرات سوريا، وإدامة شدة الصراع في المناطق الأخرى عن طريق أدواتها من حلفاء إقليميين ومحليين.
ربما كانت لروسيا بدائل خففت من وطأة خساراتها السابقة، وذلك بمد خط نفوذها من إيران إلى سوريا عبر العراق وصولاً لجنوب لبنان ومن ثم اليمن بذراع إيرانية، لكن تبقى سوريا أهم حلفائها، لا لأنها تمتلك قاعدة طرطوس فيها، ولا لأنها ترتبط معها باتفاقية دفاع مشترك، بل لأن سوريا تمثل الخط المكمل وثالثة الأثافي - كما يقال - في السوق المستقبلية للغاز، ذلك أن جلَّ ما تخشاه أميركا هو النفوذ المستقبلي الذي ستبسطه روسيا وإيران على أوربا عن طريق الغاز، فضلاً عن كون روسيا حريصة على البقاء على خط المواجهة مع إسرائيل كورقة ضغط، لما يشكله أمن إسرائيل من أولوية في الاستراتيجية الأميركية، في محاولة للتوازن مع ما توفره أميركا من مظلة حامية لإسرائيل، بل إن سوريا تمثل اليوم آخر القلاع التي تدافع منها روسيا عن وجودها وثقلها، مع الحرص على بقاء العراق في مدى رؤيتها الاستراتيجية كحليف سابق وجسر عبور بين حليفيها إيران وسوريا.
الإدارة الأميركية لا يمكن أن تستلم لمعطيات الواقع بما هي عليه، بل تحاول صنع معطيات تتيح لها مساحة واسعة لإخضاع الآخر، فهي لا تريد التضحية بالعراق الذي كانت تخطط له أن يكون بما يمتلكه من ثروات طبيعية وبشرية شرطياً جديداً في المنطقة، الأمر الذي لم يرضِ دول المنطقة التي كانت تعد نفسها لهذا الدور، لا سيما السعودية التي تحاول بتدخلاتها في البحرين واليمن إيصال رسالة مفادها بأنها قادرة على خوض حروب بالنيابة، لكن الإدارة الأميركية تدرك هشاشة الأنظمة الخليجية وتدخر دوراً كبيراً للعراق، وإلا تقسيمه لإضعاف وجوده في محور إيران - روسيا، بدليل الحديث الذي يدور في كواليس السياسة بشأن إمكانية العراق للانضمام لمجلس التعاون الخليجي لإخراجه من دائرة النفوذ الإيراني الروسي، بتنسيق أميركي خليجي، الأمر الذي يسهل عملية احتفاظ الدب الروسي بقلعته الأخيرة، مقابل استعادة أميركا للعراق الذي راهنت عليه كمشروع أو أنموذج أو حليف قادر مستقبلاً على الحرب بالنيابة، أو على أقل تقدير يبقى جدار صد لقطع الهلال الذي تخشاه دول المنطقة من منطلق طائفي، وتخشاه إسرائيل كمهدد لأمنها، بالمقابل اطمئنان أميركا على مصالحها وهي التي خسرت ما خسرته في عملية غزو العراق إلى جانب تنازلاتها في الملف النووي الإيراني، وتشير المعطيات إلى وجود تواطؤ مقصود وربما مشروط لإخلاء الساحة السورية أمام روسيا، خلافاً للتصريحات المتبادلة بين الطرفين.