هي ممارسة جريئة تضع بعض المسؤولين في حرج من أمرهم، أظن بأن أول من مارسها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في مصر، وفي العراق لم يكن الفساد مستشرياً أو يشكل ظاهرة، كما هو الحال اليوم، وإلى وقت ليس بالبعيد كان الجهاز الإداري في العراق نزيهاً بصورة عامة، حتى جاءت حقبة التسعينيات حيث انتشار مظاهرةالرشوة والتزوير والتلاعب والغش بسبب ضغط الحياة المعيشية للموظف، ولو أنني كنت ضحية رشوة بين مدير إحدى الثانويات وأحد الطلبة أواخر الثمانينيات.
والنتيجة أن كلاً من المدير والطالب فقد قيمته الاجتماعية والأخلاقية والعلمية، بينما أشعر أنا براحة الضمير على الرغم من تضرري حينذاك، بسبب ما كان يتمتع به المدير من نفوذ لقرابة تجمعه بأحد قادة الدكتاتور المقبور صدام حسين، والواقع إن الرشى البسيطة التي يتقاضاها صغار الموظفين لا تفضي إلى ما يمكن أن نسميه ثراء، لكن هناك ثراء أكثر من فاحش على حساب المال العام.
ظاهرة الفساد المالي في عراق اليوم تقودها مافيات من كبار التجار ورجال الأعمال بالاشتراك مع سياسيين متنفذين، مصالح مشتركة تبدأ بدعم الحملات الانتخابية وتمويل الأحزاب والميليشيات المرتبطة بها، مقابل الحصول على تسهيلات توصف بالخيالية، عقود توريد واستثمارات وقطع أراض تقام عليها مشاريع وتسهيلات مصرفية وشهادات ائتمان مصرفية مزورة أو بلا غطاء مالي، ومشاريع وهمية، كل هذا قائم بآليات باتت معروفة للقاصي والداني، إذ ترهن بعض القوى السياسية مصائرها بيد رجال أعمال يرسمون لها سياساتها ويساومون على بيع وشراء المناصب وتنفيذ أجندات الغير.
الدكتور حيدر العبادي وعد الشعب العراقي بتطبيق مبدأ من أين لك هذا؟ وكان هذا شعار حملته الإصلاحية في بدايتها، وقد استبشرنا خيراً، والشارع العراقي ينتظر ولو محاولة لمساءلة من أثروا على حساب أمن المواطن وخدماته، ولا يخفى على المواطن ما كان عليه حال بعض السياسيين وما أصبحوا فيه اليوم من نعيم ثروات بأرقام مخيفة، وعقارات في بلدان العالم، وأرصدة في البنوك الأجنبية، ومزارع وطائرات ومواكب من السيارات المصفحة، منهم من هرب بما جناه من مال حرام، ولم تكلف نفسها الجهات المسؤولة عناء ملاحقتهم عن طريق الشرطة الدولية(الإنتربول) ومنهم من لا يزال يتمترس خلف درع الحصانة، ويتهيأ للهروب في أية لحظة يحمى فيها الوطيس، هذا إذا كان ثمة وطيس فعلاً.
من أين لك هذا؟ مطلب شعبي لم ينفذ حتى هذه الساعة، على الرغم من أن مكافحة الفساد ومساءلة المفسدين كان المنطلق الأول لعملية الإصلاح، لكن على ما يبدو هناك تحفظات تمليها طبيعة العملية السياسية المبنية على التقاسم والمحاصصة والصفقات، وهناك تخوفات من فوضى يمكن أن تحدث جراء مساءلة البعض، الأمر الذي يقيد عملية الإصلاح.
وربما جاءت قضية تغيير السلم الوظيفي وتخفيض بعض المخصصات والرواتب التي طالت المواطنين وتركت المفسدين لتوجيه أنظار الشارع العراقي عن قضايا الفساد، ومن ثم تناسي مبدأ من أين لك هذا؟
الذي يمكن أن يوفر لميزانية الدولة أضعاف ما ستوفره عملية تخفيض رواتب الموظفين وأساتذة الجامعات، ولا يزال لدينا أمل في مساءلة رموز الفساد من سياسيين ورجال أعمال ووسطاء ومقاولين، من حديثي النعمة والطبقات الطفيلية التي نشأت في أعقاب انهيار النظام السابق، وملاحقة الهاربين، فمن المحزن والمحبط للآمال أن يصرح القضاء العراقي بأنه أصدر مذكرات قبض بحق العديد من المتهمين بالفساد لكن الجهات الأمنية لم تنفذ أوالأوامر.