رحم الله الدكتور أحمد الجلبي حين قال لمواطنة ما معناه: أيهما أفضل عراق اليوم أم عراق الأمس؟ بعد أن تهجمت عليه في أحد شوارع محافظة السماوة بسبب هروب والدها لأنه كان بعثياً، فقالت له: بالأمس كنا أفضل.
فرد عليها: أكنت تستطيعين إيقاف صدام أو أحد أعوانه أو أحد المسؤولين وتتهجمين عليه مثلما تفعلين معي الآن؟
صمتت المرأة ولم تجد جواباً، فما كان منه إلا أن يبتسم ويتركها لحال سبيلها، تذكرت هذه الحادثة لمناسبة إصرار البعض على المقارنة بين النظام الدكتاتوري والنظام الديمقراطي، وهي مقارنة مجحفة، قد تمليها بعض النوازع الشخصية التي يغلب عليها الانفعال، فتتجاهل بقصد أو دون قصد الفرق الشاسع على المستوى الإنساني، أو على مستوى الوعي، لا على مستوى الحاجات الآنية العابرة للمواطن البسيط.
الكلمة مسؤولية، والإعلام صانع رأي عام، فحين نعمم مثلما يعمم بعض المواطنين بانفعالات آنية، بأننا كنا على أيام الدكتاتورية أفضل مما نحن عليه اليوم في ظل النظام الديمقراطي، فإننا نسمح بفقدان الثقة بكل معطيات الديمقراطية ونجمِّل وجه الدكتاتورية من حيث نعلم أو لا نعلم، بل نبرر للدكتاتورية كل جرائمها، وحروبها ومقابرها الجماعية، وهدرها لأموال البلد، وقمع الحريات، وحملات الإعدام الجماعي، وتجويع الشعب بذريعة الحصار، ونفي الوطنيين وتهجيرهم وملاحقتهم، ونبرر للدكتاتورية طائفيتها وعنصريتها وطغيانها واستبدادها، ونسلب في الوقت نفسه كل قيم الديمقراطية وأسسها، وننسف كل معطياتها، من تعددية وحريات عامة وتداول سلمي للسلطة ومواطنة وحقوق وواجبات وعدالة وحرية تعبير في الرأي والفكر والتظاهر والاحتجاج والنقد.
يرى البعض إن النظام الدكتاتوري يحدد للمواطن ماذا يشرب وماذا يأكل وأي طريق يسلك، ويوجهه إلى حيث يرى، ويمنع عنه ما يمنع ولا يسمح له بالاعتراض، فيذهب المواطن للعمل سعيداً مطمئناً وهو مقتنع بمبررات السلطة، بينما يحتج ويتظاهر على كل ما يوفره النظام الديمقراطي فيتعطل العمل، وعليه فالنظام الدكتاتوري أفضل من النظام الديمقراطي، وهذا تبسيط للمقارنة، إذ ما قيمة العمل لإنسان مستلب إنسانياً؟
إن ما مر ويمر به العراق من ظروف استثنائية أعقبت سقوط النظام الدكتاتوري، لا يمكن أن نعده مسوغاً لتفضيل الدكتاتورية على الديمقراطية، فالنظام الشمولي يتناغم مع منظمومة متكاملة من الاستبداد، سواء في ثقافة بعض المستفيدين أو يعتقدون بأنهم مستفيدون، أم في أنظمة المنطقة ذات الطابع الاستبدادي، والعراق يدفع ثمن التحول الخطير الذي لا يتناسب ومصالح الآخرين، ممن يحسنون العيش عبيداً تحت سوط الجلاد، أو ممن يتخوفون من التجربة خشية تمددها وتهديد عروشهم، أو ممن ينظرون للعراق من منظور طائفي ضيق يستكثر على بقية أطيافه المشاركة في إدارته.
من يترحم على زمن الدكتاتورية يهين دم الضحايا الأبرياء ممن راحوا ضحية حروب النظام ومعتقلاته وإعداماته وأسلحته الكيمياوية وحملات التهجير الطائفي والعرقي، وكأنه يبرر للدكتاتور تلك الحروب وجرائم التصفية والتطهير والمقابر الجماعية وقمع الحريات وتجويع الشعب العراقي بذريعة الحصار، ومن يرى بأن عمليات القتل والإجرام لا تزال مستمرة، فهي من إرث ذلك النظام وعلى يد أعوانه من البعثيين والطائفيين وعملاء الأنظمة الاستبدادية التي تسعى لإعادة العراق إلى ما كان عليه.
إذا ما اضطررنا للمقارنة، فبرغم ما نعانيه من تحديات أمنية، لا سيما احتلال عصابات داعش الإرهابية لبعض محافظاتنا، وبعض الفوضى السياسية، والفساد، والمحاصصة، والطائفية السياسية وصراعاتها، وسوء الخدمات وغيرها، أقول برغم كل شيء، أصبح لدينا أمل لنتخلص تدريجياً من إرث الدكتاتورية ونظمها الشمولية الاستبدادية، فالأمن لم يكن مستتباً في ظل الحروب التي راح ضحيتها أكثر من مليون عراقي، ولا في ظل السجون والمعتقلات والإعدامات والمقابر الجماعية والكيمياوي وحملات التهجير، ولم يكن الأمن متوفراً برغيف الخبز الذي لم يكن يصلح علفاً للحيوانات، ولا ببيع المواطن كل ما يملك لسد الرمق، بما في ذلك سقوف البيوت وشبابيكها، أو بيع إحدى كليتيه، ولا في عشرات الأجهزة الأمنية والقمعية، ولا في تجفيف الأهوار وتجريف بساتين الدجيل، ولا في حكومة أبناء العمومة الذين اتخذوا من العراق مقاطعة لسوق أبناء الشعب كأجراء مستعبدين، على أقل تقدير إننا اليوم نستطيع أن نعبر عن آرائنا، وما كان لمنابر النظام المباد أن تسمح بالمقارنة بين فوائد البيض الأبيض والبيض الأحمر للدكتاتورية أو للديمقراطية.