بمجرد مغادرة الرحم، يوضع الجسد البشري تحت عناية القيم الاجتماعية والاقتصادية التي تحاكمه، وتحكمه، و تتحكم فيه، فهو المجسم الوحيد الماثل بصريا أمام العين، والمعبر عن الوجود المادي للانسان..
وبسبب هذه الابعاد المرئية التي تسبق الادراك الذهني لمعنى الوجود نفسه بالنسبة للفرد، يتم التعامل معه كأول إناء للتفاعل بين حضوره الواضح وبين ما سبق من معطيات تأريخية، وثقافة موروثة، وقيم اقتصادية تحدد ماهية وجوده على أرض الواقع.
قيم استقبال الجسد الأولى هي قيم اقتصادية صرف، فإلقاء الجسد بظلاله على ما حوله استجابة للنور الاول، هي اللحظة التي تشرع فيها القيم الاقتصادية بإلقاء أكبالها عليه.
فهو إما مغضوب عليه حيث لا مبررات اقتصادية لوجوده أصلا، و إما محاط بعناية التكنولوجيا مع الإذعان لشروطها كاملة... ومع الاختلاف الحضاري هنا وهناك، فإن الجسد لايكاد يغادر موضعه كميدان للصراع الأزلي بين السليقة، والرضوخ للقيم التي ستطلق مجموعة منظمة من الرسائل والاشارات لتطويع الجسد وفق الإرث الثقافي المتراكم والمتغير باستمرار كممثل للنموذج المقبول اجتماعيا وزمكانيا. ولا يمكن للقبول الاجتماعي إلا أن يكون مرتبطا بضرورات اقتصادية تحدد أخلاقية التفاعل حتى يصبح الإذعان لها أو الخروج عنها هو الحد الفاصل بين بقاء الجسد وفنائه. لذلك أصبح تشتت الجسد كقيم فيزيائية وكيميائية وبايولوجية وفسيولوجية محض تحت ثقل قوانين اقتصادية متباينة حتمية يستحيل على الفرد أن يفر منها، فهي تبدأ قبل تشكل الوعي الذاتي بتعامل المجتمع مع الجسد دون استيفاء إرادة العقل لحضورها، لتختصر عصارة وجودها في حجر أساس لا مهرب منه قبل بلوغ الذهن مرفأ خيار آخر.
هذا يعني اننا لا نعرف عن أأجسادنا شيئا كطين نقي لم يحفر عليه أي مسمار كتابته، لأن الطين ذاته قد نقش عليه أثر ما حوله وهو لم يزل بضعة خلايا في رحم ما. فالجسد يحمل موروثاته الجينية دون رغبة منه، ويولد عليها، سوى ما سيحفر على مستقبلاته الحسية أوان ولادته لتصبح البصمات التي تحتضنه الختم الممثل لطغيان ثقافة ستصهره وتعيد تكوينه بما يناسب ديمومتها.
إننا نجهل أجسادنا بقدر ما تملي علينا المنظومة الاقتصادية أخلاقها، ونحن إذ نتبعها نهدم سليقته المتفردة وفق منحنى بياني متصاعد لتحل محلها ارادة الوجود الجمعي، ما يرتضيه لها وما يرفضه.
تتراجع السليقة حتى تركن وتهمل في العقل الباطن، وقد تستفيق احيانا في احلامنا او ممارساتنا المموهة والسرية لتعود على هيئة تأنيب ضمير يجلد الجسد ويؤنبه على ما ارتكب من جرم في حق المنظومة الاقتصادية_الأخلاقية.
كل ما حولنا وجد قبل أن نعي ماهية الجسد، ونكتشف رغباته، وقد نصل حد العجز في الفصل بين ما تريده السليقة وما يريده من دحرها، ولا فرصة هنا للاحتفاظ ببعض ما كانت عليه.
هكذا فقدنا صلتنا بالجسد البشري منذ أمد بعيد، وغيبناه تحت أطنان من الموروثات الثقافية والجينية لآلاف من السنين، وإذ نتحدث اليوم عنه إنما نستنطق الغياب الذي نجهله حتما.
ثقافة الجسد هي محاولة عمياء للوصول للمنابع النقية، ومع الضخ الالكتروني المرئي والسمعي حول ما يشكله الجسد من تواجد استهلاكي عبر تقنيات معقدة أصبحنا في أبعد نقطة عن استكشاف حقيقته.
في الغرب لم تعد هنالك الكثير من الفواصل بين الممنوع والمرغوب، غير أن مجسات الجسد ذاته قد ذابت مع ما ينبغي لها ان تكون حتى تلاشت أبعادها، وأصبحت في سباق مع مقتضيات السوق لنيل غفرانه أن خالف عصرنتها.
شرقا، المشاكل أكثر تعقيدا، مع تغييب الوعي الجمعي أصبح الجسد خاضعا بشكل تام لأيقونات غربية تتناقض كل معطياتها مع الإرث الديني والاجتماعي مستمدة سطوتها من سطوة الدائرة الاقتصادية المحكومة بالتبعية لسياسة البترودولار.
واقعا نحن نعيش حالة عدمية جسدية وذهنية تحت ضغط آلية التمزق اليومي بين تواصلنا تقنيا مع نظام أخلاقي يناسب مباديء الاتجار بكل ما هو محرم لدينا، و بين خضوعنا ظاهريا لثقافة تكاد تنقرض في ضمائر الأجيال الناشئة.
قد يعتمد المبصر على حواس أخرى تمكنه من إدراك ما حوله، لكننا فقدنا حرية الاحتفاظ بحواسنا البدائية، فقدنا حرية رفض ما لا يتفق وموروثاتنا الثقافية مع إصرارنا على عدم إنشاء ثقافة جسد خاصة بنا تحمي خصال هويتنا من تبديد معولم، ومن ثم خياراتنا العصرية فيما يعني معضلات الجسد وتواصلنا مع الحضارات الأخرى من خلالها.