منذ قرونٍ طويلة عرفت المجتمعات البشرية شتى اشكال الاتجار بالبشر، اذ لازمت العبودية جميع الحضارات البشرية منذ بدايتها، وكانت هذه التجارة منتشرةً ومباحةً في المجتمعات القديمة، وقد كان العبيد يُعاملون على انهم اشياء مملوكة لأسيادهم، ولقد تعرض لهذه الظاهرة سيدنا يوسف عليه السلام عندما باعهُ البدو الى عزيز مصر الذي اشتراه منهم بثمن بخس، قال تعالى (وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين).
وقد خاضت الانسانية صراعاً مؤلماً من اجل تحريم تجارة العبيد، وفي بدايات القرن العشرين استطاعت قطع شوطا ملموسا في هذا الصدد، حيث ترسخ في المجتمع الدولي العداء للرق والعبودية واقرت الدول الاتفاقيات التي تحرم الاسترقاق وتدعو الى كفالة حقوق الانسان وحرياته، الا ان شكلاً حديثا ًمن أشكال عبودية البشر بدأ يظهر متجاوزا ًالعبودية في شكلها القديم ومهدداً لحياة وحرية ملايين الرجال والنساء والاطفال الذين يتم الاتجار بهم لأغراض الاستغلال الجنسي بمختلف اشكاله والخدمات القسرية ونزع الاعضاء البشرية والاتجار بها وتجنيد الاطفال والاستغلال في اغراض اخرى، وفي نهايات القرن الماضي شهدت ظاهرة الاتجار بالبشر نمواً مخيفاً فأصبحت تحتل المركز الثالث في الأرباح بعد تجارة السلاح والمخدرات من جهة، واضحت تشكل تحديا يهدد امن واستقرار المجتمعات البشرية من جهةٍ اخرى، وذلك يضعها في تصنيف المشكلات العالمية، فهي تمس جميع دول العالم سواء كانت تلك الدول نقاط تجمع، ام محطات عبور، ام وجهة نهائية لتلك التجارة كمايمكن ان يكون الاتجار بالبشر بصورة الاستغلال الجنسي او العمل او للاغراض الطبية غير المشروعة.
وبدأت الممارسات الدولية مساعيها في مواجهة ظاهرة الاتجار بالبشر، فأُبرمت الاتفاقيات الدولية والبروتوكولات وصدرت المواثيق والاعلانات التي تحرم الإتجار بالبشر وتدعو الى العمل على منعه ومكافحته، واعقبها مساعي التشريع الوطني لكل دولة بصياغة ما افرزتهُ تلك الاتفاقيات والبروتوكولات في شكل تشريعات تواجه تلك الظاهرة ووضع آليات وطنية لمنع ومكافحة الاتجار بالبشر، وهذا ما فعله المشرع العراقي بإصدار قانون مكافحة الاتجار بالبشر رقم (28)لسنة 2012 ، والذي جاء في الأسباب الموجبة لتشريعهِ ( لهدف مكافحة جريمة الإتجار بالبشر والحد من انتشارها واثارها ومعاقبة مرتكبي هذا الفعل الخطير الذي يهين الكرامة الانسانية وبغية وضع الاليات التي تكفل مساعدة ضحايا الإتجار بالبشر).
وعرف المشرع العراقي الاتجار بالبشر في المادة الاولى من قانون مكافحة الاتجار بالبشر رقم (28) لسنة 2012بانه :-
اولا - (يقصد بالاتجار بالبشر لأغراض هذا القانون تجنيد اشخاص او نقلهم او استقبالهم بواسطة التهديد بالقوة او استعمالها او غير ذلك من اشكال القسر او الاختطاف او الاحتيال او الخداع او استغلال السلطة او بإعطاء او تلقي مبالغ مالية او مزايا لنيل موافقة شخص له سلطة او ولاية على شخص اخر بهدف بيعهم او استغلالهم في اعمال الدعارة او الاستغلال الجنسي او السخرة او العمل القسري او الاسترقاق او التسول او المتاجرة بأعضائهم البشرية او لأغراض التجارب الطبية) .
وبملاحظة التعريف السابق نرى انه يتفق الى حد كبير مع التعريف الوارد في بروتوكول الاتجار بالاشخاص الملحق باتفاقية مكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية ولكن لابد من الإشارة الى نقص تشريعي مهم الا وهو ان القانون لا يقدم الكثير من الحماية القانونية للأطفال والاحداث دون سن الثامنة عشر، فلم يأخذ القانون بنظر الاعتبار وضع الطفل الخاص وحاجته لمزيد من الحماية، فحسب نص المادة الاولى من القانون ـ التعريف ـ يعتبر الاطفال ضحايا في حالة تجنيدهم او نقلهم او ايوائهم او استلامهم لأي من اشكال الاستغلال اذا تم باستخدام القوة او اي شكل من اشكال الاكراه او الخطف او الاحتيال او اساءة استخدام السلطة او لكونهم مستضعفين.
وبخلاف ذلك فان الافعال المرتكبة بحقهم لا تشكل جريمة اتجار بالبشر، وبحسب نص المادة الثالثة من بروتوكول منع وقمع الاتجار بالاشخاص لعام 2000، التي عرفت الاتجار بالبشر في الفقرة (أ)، اشارت في الفقرة (ج) الى انه يعتبر تجنيد طفل او نقله او تنقيله او ايوائهِ او استقبالهِ لغرض الاستغلال اتجاراً بالأشخاص حتى لو لم ينطوِ على استعمال اي من الوسائل المبينة في الفقرة (أ)، في هذه الفقرة ميز البرتوكول بين الطفل والبالغ واعطى حماية خاصة للطفل، وذلك ما لم يفعله المشرع العراقي
فالاتجار بالبشر جريمة ضد الانسانية لما ينطوي عليهِ من عدوانٍ صارخ على القيم الانسانية والجماعات البشرية، حيث يجعل الانسان سلعةً ومحلاً للعرض والطلب ويمكن تداولها واستغلالها بكافة الوسائل غير المشروعة وذلك بالمخالفة لتعاليم الاديان السماوية والقوانين والاعراف الدولية.
واثاره السيئة على الجوانب الانسانية والامنية والاجتماعية والنفسية والصحية للضحايا، وان انتشاره في الدول يجعل من هذه التداعيات ذات اثرٍ سيئ على النظام العام في الدولة، في جميع عناصره التقليدية وغير التقليدية منها.
وقوانين اغلب الدول نصت على انشاء لجنة وطنية واجبها الأساسي تنسيق الجهود بين الجهات المعنية لمنع و كافحة الاتجار بالبشر، وان اي استراتيجية للتعامل مع الاتجار بالبشر لن يكتب لها النجاح ما لم تكن جزءا من استراتيجية متكاملة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والبشرية الشاملة، وما لم تكن عنصرا من عناصر رؤية تنموية واضحة، وسياسات وبرامج تستهدف محاصرة الفقر وتنمية المجتمع وتعمل على تطوير خدمات التعليم والرعاية الصحية والنهوض بأوضاع المرأة والاطفال، واتاحة المزيد من فرص العمل وغير ذلك مما يضمن حق الانسان في حياة آمنة ومعيشة كريمة.