دار حديث البارحة بيني وبين صديقة لي في احدى المناسبات حول "السياسة". قالت، لا احب السياسة، تخيفني، احب ان ابتعد عنها.
قلت لها: ستتفاجئين عندما اخبرك ان كل مانقوم به سياسة، جلستنا على هذه الطاولة بالذات هو سياسة، كلامنا سياسة، مواقفنا اليومية مع اولادنا ومجتمعنا هو سياسة. كل شيء سياسة." عاد واشترك آخر في الحديث وقال "لا، ليس كل شيء سياسة. السياسة هي فن "المكر والنفاق" وانا انصحك ان تتركي السياسة". أجبت صديقي (المنتمي الى حزب فاشل لا يحترم محاذبيه ويتبوأ فيه مركزاً "سياسياً" وهمياً -لا أنكر اني احسست وكأنه ينافق ولكن عدت لأحسن الظن في الآخرين فربما كان يريد مصلحتي) وقلت كيف اتركها وهي .. طريقة حياة!
قال: "لا! في السياسة نفاق وتعب. ليست لك. قد تكون لائقة لو كنت في حزب ما"
قلت: "ليس لاني لا انتمي الى حزبك ولا الى اي حزب آخر فإني لا يحق لي ان اتحدث عن السياسة! واذا كانت السياسة في هذه الصورة الكريهة، فلماذا انت وزوجتك فيها؟"
لم يجب.
لم ألومهما على تفكيرهما، فقد كبرنا على كره هذه الكلمة وربطها بمفهوم آخر يختلف عن مفهومها الأصلي الذي أساء محترفو السياسة سمعته. فيذكرنا هذا المصطلح باحتيالات ومكر السياسيين وكذبهم وتشويههم لكلمة السياسة التي هي في الأصل كلمة لها معان نبيلة ولها أهداف نبيلة من شأنها تحقيق أهداف تخدم الجميع سواء على الصعيد الفردي او الاجتماعي وان يكون سلاحها الاول هو الديبلوماسية والحنكة والحجة السليمة والهدوء واحترام الاخر وهو ما يُعرف عنه بانه "فن الممكن".
قلت لهما: " افهم ردة فعلكما فقد أساءوا لسمعة الكلمة. ولكن ارفض ان تكون كلمة السياسة حكراً على تجار المبادئ وعلى المنافقين والمنافقات والماكرين والماكرات.. السياسة هي فن من الفنون تحتاج الى مهارات لتحقيق المصلحة.. وهذه المصلحة قد تكون فردية او للصالح العام وقد تكون ايضاً للمصلحة العائلية والاجتماعية وايضاً... العاطفية".
قفز صديق ثالث وقال: "ماذا؟ العاطفية؟ هل ستدخلين السياسة في هذا كذلك؟ ارفض هذا الكلام المفصول عن شيء يدعى "المشاعر" و "القلب" والإحساس الصادق".
قلت: "ومن قال ان السياسة بعيدة عن القلب؟ انها تنبع من القلب وضميره وإنسانيته لتخدم مصالح الناس وقد تكون من بين المصالح تلك المتعلقة بالحب والعشق."
قال الثالث بانفعال: "كمان مصلحة؟ لا اله الا الله! لا، انا ارفض هذا الكلام. ارفضه وارفض ربط الحب بهكذا كلام."
ضحكت وقلت: "لا تتوتر، انا أفهمك فأنت لا زلت تربط الكلمتين البرئتين: "السياسة" و "المصلحة" بمعانيها التي شرحناها سابقاً وقد اساء الناس الى معانيها الأصلية فبتنا كلنا نظن ان هاتين الكلمتين تعني أمورا لا صلة لها بالانسانيات والعواطف النبيلة بل بالماديات ومصالح المكر. ولكن، لنعيد لهاتين الكلمتين مكانتهما الأصلية ولنعيد .. من الاول. فمثلا لو اخذنا القلب، افليس من مصلحة القلب ان يستخدم سياسة العذوبة والرقة كي يحافظ على حبه؟ افليست السياسة وأدبها لحفظ حقوق المهمشين وللحفاظ على حقوقهم الانسانية. وماذا عن العدالة والمساواة؟ الا من المُفترض ان تُستخدم كل آداب السياسة للحصول عليها؟
وللقلب سياسة الحب والهوى لجلب الحبيب والحفاظ عليه. فقد يكون من مصلحتك ان تجلب زهوراً لزوجتك الليلة وتتناولا العشاء سوية عن -مثلاً- البقاء طويلاً في العمل. وكذلك الامر، فإنه ليس -على سبيل المثال- من مصلحة لك في جلب اي شبهة لك قد تثير غيرة زوجتك فتبتعد مثلاً عن مصادقة النساء والخ من الأمثلة التي من شأنها ان تثبت نظرية ان كلمة "مصلحة" ليست سيئة بل واقعية وكلمة "سياسة" ليست سيئة بل هي ...طريقة حياة!
أضفت اخيراً، ربما علينا ان ننظر الى الأمور بمنظار أوسع اي كما يقولون بالانكليزيّة: "thinking outside the box".
قفز عندها مرة اخرى الثالث ثم قعد ثم نظر الي بغلو معظم العرب اللامتناهية وقال وكأنه يخطب من على ظهر حصانه المرن وفي يده سيفاً مستعداً أبداً لقتل العدو: "انا الذي اصنع هذا الصندوق الذي تتكلمين عنه وانا الذي أضع فيه خلق الناس على كيفي."
ضحكت مرة ثانية وقلت: فإذا كنت في هذه القوة فلماذا لا تجعل هذا الصندوق مرناً ليستوعب أموراً وعلوماً جديدة؟
قال وكأنه بيده مصير الكون: لا اريد.
تيقنت ساعتها ان الحديث انتهى. وتيقنت ايضاً لماذا نحن العرب نلقى هزيمة تلو اخرى وندّعي ونقول نحن "منتصرون" ونحن نقدر ان نفعل كذا وكذا ونضرب على صدورنا ونتوعد بالثبور وعظائم الامور ولكن في الحقيقة نحن "منهزمون" و "متقاعصون" ونحن فقط نحلم ولا نعترف بالحقيقة ولا نعمل على تغييرها! واذا عجزنا عن إصدار حجة مقابل حجة الآخرين في الحوار، فإننا نلجأ الى العموميات وطرح الشعارات.
ولكن، لا زال هناك املٍ. اذ يقول العلماء ان الطريقة الوحيدة لمواجهة التحجر والرجعية وهذا الواقع المرير هو في "العلم" ومنه نستخرج ما يسمى بأداب السياسة.
العلم والأدب السياسي هما قتيلا الرجعية والتخلف. وهذا لا يُخيف، ولا يعيق بل يشجع على التقدم.
ولا بأس من مرونة في التفكير بين الحين والآخر فإنه لا يُخسر بل هو مكسب اكيد.