استراحة الغداء هو وقت غريب فعلاً ففيه نقوم بكل الأشياء المترتبة علينا وما يلزم البيت من احتياجات.
نعم، نقوم بكل شيء ما عدا شيء واحد، الاستراحة.
اليوم، قررت ان استريح.
جلست على كرسي في الحديقة القريبة من عملي وسمحت لاشعة الشمس ان تتسلل إليَّ وتحيطني بدفئها وحضرّت نفسي لان، استريح. واغمضت عيني.
كل شيء كان جاهزاً الحقيقة، الطيور والزهور والاشجار العالية وجمال الطبيعة والسماء الصافية، كل شيء تقريباً.
ماعدا شيء واحد.. السكون.
لا اعتقد ان مناطقنا في بانكستاون ونواحيها تعرف شيئاً يدعى، السكون. فمن جهة كان هناك صوت حفريات وحالة بناء وإعمار ومن جهة ثانية كان هناك صوتاً جميلاً يرن في أذني طرباً اصيلاً حتى خلتني في سويسرا.
كان هذا الصوت الخلاب لامرأة بدت ،على ما يبدو، وكأنها أم. لكن هذه الام المتحدثة باللغة العربية، قررت تأديب ولدها الصغير الذي لا يتعدى عمر الست سنوات في وسط الحديقة الغناء فأخذت تصرخ عليه بأعلى صوتها (اكيد كانت تعلم ان صوتها خلاب فما ارادت ان تبخل فيه على خلق الله اجمعين) وهو ينظر اليها بدون اهتمام وكأنه اعتاد هذا الصوت وهذا المنظر وينتظر الوقت التي تنتهي فيه أمه الصياح حتى يعود الى لعبه. والمذهل انها انتهت.. وعاد هو الى لعبه وهي عادت الى رفيقاتها وكأن شيئاً لم يكن وعلى وجهها ابتسامة عريضة وكأنها انتهت من إنجاز خطير وقالت لهن "شو بيعذبوا الولاد، اوف"، قلن لها: "ايه والله، يلا تعي الاكل جاهز والقهوة جاهزة".
قلت، الحمدلله. انتهى التشويش وخصوصاً انهم الان سيلتهون بالطعام ويسكتن قليلاً.
عدت الى محاولة تركيزي السابق حول موضوع الاستراحة، فعدت واستسلمت لهدوء ودفء الشمس واغمضت عيني.
وليتني لم افعل.
ففي هذه اللحظة بالذات، قررت تلك المرأة ورفيقاتها ان يكونوا سعداء.. وان يشاركوا كل الحديقة ومن فيها سعادتهم، فعلت ضحكاتهم حتى الصياح (مجدداً) وأخذ بهم الحال في الاسترسال بالحديث الى درجة حماسة بدوا وكأنهم يتبارون من منهن اعلى صوتاً لتُسمع صديقتها - والكون كله- عن "نهفاتها" والمضحك المبكي في الموضوع عندما تبدأ إحداهن "التحدث" عن "نهفات زوجها".
اخ، يا وجعي! الحمدلله،
اسرار بيتها وزوجها وبيوت عائلتها وعائلة عائلتها وجيرانها وعائلاتهم كلها اصبحت لدي، ولدى كل الناس المتواجدة في هذه الحديقة الغناء.
ما أدهشني هو طريقة تعبيرهم عن مشاعرهم في الفرح والحزن وما يختلجهما من استخدام للحنجرة القوي الماكن في السراء والضراء والحمدلله.
قلت في نفسي، لا، علي التركيز اكثر.
كنت مصممة ان، استريح.
ليتني ما قررت هذ القرار الفظيع.
وليتني بقيت في همي بين جدران مكتبي الكئيب.
ففي اللحظة التي أغمضت فيها عيني مرة ثالثة، قرروا أزواج تلك النساء القدوم للمشاركة في "الحديث".
كان يوماً اسوداً بالتأكيد!
تستطيعون الان تصور الحديقة الغناء واصحاب الأصوات الخلابة وسكون الأماكن ورقي تصرفات اَهلها في بانكستاون وضواحيها.
رجعت أدراجي وندمت على الساعة التي قررت فيها في ساعة الغداء ان، استريح.