منذ إنتهاء العمليات العسكرية التي شنتها قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية فيما عرف بعاصفة الصحراء عام1991، لإخراج القوات العسكرية العراقية من الكويت، وما أعقبها من تمرد واسع شهدته معظم محافظات العراق، والعراق لم يعد ذلك العراق الذي كان يهابه الأصدقاء ويخشاه الأعداء، بل بات بلدا مهشما يعاني شعبه كل أشكال الفقر والجهل والحرمان. كانت أبرز نتائج هذه الحرب المجنونة،تدمير كل بنى العراق التحتية، وفرض حصار شامل طال كل مناحي الحياة وحرمان شعبه من أبسط حقوقه الأساسية، وفرض حظر جوي على معظم أجواء العراق شمال وجنوب العاصمة بغداد، وإقامة منطقة تحت حماية قوات التحالف الدولي، قيل أنها ملاذ آمن للكرد في محافظات منطقة كردستان للحكم الذاتي أربيل والسليمانية ودهوك التي أفرغت جميعها من أي تواجد للمؤسسات الحكومية العسكرية والمدنية، حيث سلمت محافظة السليمانية إلى قيادة حزب الإتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال الطالباني، وسلمت محافظتي أربيل ودهوك إلى الحزب الديمقراطي بزعامة مسعود البرزاني. وسعت بعض أحزاب الطيف الشيعي لإقامة منطقة مماثلة في جنوب العراق ولكنها باءت بالفشل. ولم تمض سوى مدة قليلة، إلاّ ويدب الصراع الدامي بين مليشيات هذين الحزبين المعروفة بإسم البيشمركة، على تقاسم واردات المنافذ الحدودية ورسوم الترانزت المفروضة على مرور البضائع الواردة من تركيا عبر هذه المحافظات إلى بقية أنحاء العراق ودول الخليج العربي. حسمت مليشيات السليمانية الصراع لصالحها حيث تمكنت من السيطرة على أربيل، مما إضطر مسعود البرزاني طلب النجدة من الحكومة العراقية لإرسال الجيش العراقي لإنقاذه من مليشيات الطالباني، وهو ما تم فعلا حيث تمكن الجيش العراقي من السيطرة على المنطقة بأكملها في بضعة أيام وإعادة تسليم محافظتي اربيل ودهوك إلى مسعود بعد إنسحاب الجيش العراقي منها بطلب من الإدارة الأمريكية. حاولت الحكومة العراقية إبرام إتفاق مع القيادتين الكرديتين لتصفية الخلافات فيما بينهما من جهة، وبينهما وبين الحكومة العراقية من جهة أخرى لتحديد صيغة مناسبة لحل القضية الكردية العالقة منذ سنيين طويلة، وذلك بإيجاد صيغة للحكم الذاتي لمنطقة كردستان أكثر نضجا وتطورا من سابقتها التي إعتمدت في منتصف عقد السبعينات من القرن المنصرم. قيل في حينها أن جميع الأطراف كانت قد توصلت إلى إتفاق، إلاّ أن الإدارة الأمريكية التي لم يرق لها هكذا إتفاق أجهضته قبل أن يرى النور.
إتخذت الإدارة الأمريكية من منطقة كردستان مركزا للنشاط المعادي للحكومة العراقية حيث جعلت منها مسرحا للمخابرات الأجنبية وما كان يعرف بالمعارضة العراقية التي لم يكن لها وجود يذكر حينذاك داخل العراق. إختلف الحال كثيرا بعد غزو العراق وإحتلاله من قبل الولايات المتحدة الأمريكية عام 2003، حيث قدمت قوات البيشمركة الكردية خدمات كبيرة للقوات الغازية، مما مكن الحزبين الكرديين الديمقراطي والإتحاد من تعزيز وجودهما وتحسين مكانتهما بين قوى المعارضة العراقية المساندة للغزو الأمريكي، ونالت جراء ذلك ثقة المحتل الأمريكي بوصفهما الحليفين الأكثر صدقية وتوافقا مع أهدافها بحيث يمكنها الإعتماد عليهما كحليف إسترتيجي.
أعدت الإدارة الأمريكية دستورا يؤسس في ظاهره لنظام سياسي ديمقراطي برلماني في إطار عراق إتحادي فيدرالي، ويؤسس في باطنه لنظام سياسي يقوم على المحاصصة الطائفية والأثنية، ويفضي حتما إن إجلا أو عاجلا إلى تقسيم العراق وتفتيته إلى كيانات أثنية وعرقية هزيلة لا تقوى على حماية نفسها إلاّ تحت حراب الأجنبي. وهذا ما أكدته الأحداث اللاحقة بكل وضوح حيث يعيش العراق منذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا وضعا مأساويا لم يشهده من قبل، حيث يتفشى الفساد الإداري والمالي والأخلاقي في جميع مفاصل الدولة من قاعدتها حتى قمتها، بحيث بات يصنف العراق حاليا ضمن خمسة دول الأكثر فسادا في العالم، وينتشر الجهل والفقر والمرض في كل مكان، وتستوطن الشعوذة والخرافة والضلالة في عقول الكثيرين في بلد كان حتى وقت قريب يشار إليه بالبنان على مدى ما بلغه من رقي وتقدم وأمن وإستقرار قياسا لبقية دول المنطقة والكثير من دول العالم، يكفي أن نشير هنا إلى ما نشرته مجلة الإيكونومست البريطانية الشهيرة في مجال المال والإقتصاد عام 1979 بأن مستوى التعليم والصحة والرعاية الإجتماعية فاق مستوياتها في بلد متقدم مثل أستراليا. بلغ التدهور في العراق حدا خطيرا، حيث لم يعد العراق اليوم عراقا واحدا كما تؤكد ذلك أدبيات الحكومة العراقية ووسائل إعلامها، فهي تتحدث الآن عن حكومة بغداد المركزية وحكومة أربيل لإقليم كردستان، ولكل منهما رؤساؤها ووزراؤها ودستورها وقوانينها وعلمها وبرلمانها، وهذه حالة فريدة ليس بين دول المنطقة فحسب بل ودول العالم أجمع. إذ أن المعروف أن لكل بلد من بلدان العالم كبيرها وصغيرها حكومة واحدة بصرف النظر عن طبيعة نظامها السياسي، تبسط نفوذها وسيطرتها على جميع أنحاء البلاد وتمثلها في المحافل الدولية، وتخضع لدستور واحد يحدد طبيعة نظامها السياسي، تنبثق عنه قوانين مختلفة لتنظيم حياة شعبها، ولها جيش واحد لحماية حدودها وسيادتها، وقوات شرطة محلية وما إلى ذلك لضبط أمنها الداخلي، ومجلس نواب وربما يسانده مجلس شيوخ لتشريع قوانين البلاد ومراقبة تنفيذها ومتابعة سير أعمال الحكومة، وسلطة قضائية لتحقيق العدل بين الناس، وعلم ونشيد وطني واحد يعبر عن هويتها الوطنية. والأدهى من كل ذلك أن لحكومة أربيل السيطرة الكاملة على حكومة بغداد وبرلمانها من خلال وزراؤها الكرد في حكومة بغداد ونوابها في برلمان بغداد، إذ لا يمكن تشكيل أية حكومة في بغداد دون موافقة أربيل والعسكس ليس صحيحا حيث ليس هناك أي دور لبغداد بتشكيل حكومة أربيل، ولعل ما نشاهده الآن من تعطيل عمل برلمان وحكومة الإقليم وإستمرار رئيس الإقليم بمنصبه دون أي سند قانوني بعد أن أنتهت مدة رئاسته ولا يحق له تمديدها أو الترشح مرة أخرى لها بموجب دستور الإقليم، وبرغم ذلك لا تستطيع بغداد تحريك ساكن، إلاّ خير دليل وشاهد على صحة ما ذهبنا إليه. ولا يمكن لحكومة بغداد وبرلمانها إصدار أي قرار أو تشريع أي قانون دون موافقة أربيل والعكس ليس صحيحا، إذ تصدر حكومة أربيل قرارات وتشريعات على هواها، وتتصرف بواردات وثروات الإقليم دون حسيب أو رقيب وتعقد الإتفاقات مع الدول الأخرى دون الرجوع إلى حكومة بغداد، وبرغم ذلك تحصل على ما نسبته (17%) من موازنة حكومة بغداد المتأتية أساسا من عائدات نفط وسط وجنوب العراق، أنها والله قسمة ضيزى. وعلى صعيد القوات المسلحة، فالفوضى أكبر فهناك اليوم في العراق جيوش مختلفة ذات مرجعيات وأهداف وعقائد مختلفة، وليس جيشا واحدا موحدا كبقية دول العالم. هناك الجيش العراقي بصنوفه المختلفة البرية والجوية والبحرية، وقوات مكافحة الإرهاب، والشرطة الإتحادية، وجميعها مدججة بالأسلحة الثقيلة المختلفة، وقوات الحشد الشعبي المؤلفة من فصائل عقائدية مختلفة تابعة في حقيقتها لأحزاب الإسلام السياسي، أغلبها من لون طائفي معين وفي ظاهرها لهيئة الحشد الشعبي بوصفها جزءا من القوات المسلحة تحت أمرة القائد العام للقوات المسلحة العراقية طبقا لقانون الحشد الشعبي الذي أقره مجلس النواب قبل مدة قصيرة، فضلا عن قوات الحشد العشائري. وفي الجانب الكردي هناك قوات البيشمركة التابعة للحزبين الرئيسين الديمقراطي الكردستاني والإتحاد الوطني الكردستاني بوصفها الظاهري كونها جزء من منظومة الدفاع العراقي، وفي حقيقتها مليشيات تتلقى أوامرها من قادة حزبيها ولا تخضع مطلقا لسيطرة وزير الدفاع العراقي أو القائد العام للقوات المسلحة، وقد إشتبكت هذه المليشيات أكثر من مرة وفي أكثر من مناسبة مع الجيش العراقي عندما تتضارب مصالح الكرد مع حكومة بغداد كان آخرها في مناطق مختلفة في محافظة كركوك، وهذا ما يفسر جزئيا تأخر عمليات تحرير الحويجة ومناطق أخرى في محافظة كركوك من براثن عصابات داعش الإرهابية لحد الآن، وكذا الحال بالنسبة لمنظومات الأمن والمخابرات والشرطة، إذ أن لكل من بغداد واربيل منظوماتها الخاصة بها.
يلاحظ أيضا أن لكل من هذه المجاميع المسلحة راياتها الخاصة بها. واليوم بعد أن أنهكت الحروب العراق وتكالبت عليه قوى الشر من كل حدب وصوب ،إعتقد الساسة الكرد بأنهم وجدوا ضالتهم بتحقيق حلمهم المنشود بتأسيس الدولة الكردية العتيدة غير مبالين بما لحق بالعراق والعراقيين من مآسي ونكبات وما يتهدده من عنف وإرهاب، إحترق فيه الأخضر واليابس، متناسين العيش المشترك مع بقية مواطنيهم العراقيين آلاف السنين. والغريب أنه عندما يتعرض أي طرف من هذه الأطراف إلى ثمة مخاطر خارجية أو أزمات مالية يتذكرون وطنهم العراق لإنقاذهم من محنتهم، كان آخرها مناشدة بغداد لشجب القصف التركي لمنطقة سنجار الذي راح ضحيته بعض أفراد البيشمركة، بينما يغضون الطرف عن قيام حزب العمال الكردستاني التركي، برفع علمه في وسط أكبر ساحة في مدينة كركوك وممارساته المستمرة منذ سنين بإنتهاك السيادة العراقية وتواجده المسلح في سنجار التي إتخذ منها منطلقا لشن هجماته المسلحة ضد القوات التركية، فضلا عن تدخله في الصراعات العراقية الداخلية.
يتوهم كثيرا من يعتقد أن ظروف العراق المضطربة وضعف حكومته الحالية، وما يواجهه من تحديات داعش التي ما زالت تحتل مساحات غير قليلة من أراضيه، وتأجيج العنف الطائفي، والإتكاء على الأجنبي يمكن أن توفر له بيئة مناسبة لتنفيذ بعض مشاريعه التقسيمية بصرف النظر عن أحقيتها من عدمه، وبخاصة أن أصحاب هذه المشاريع أنفسهم يعيشون أزمات سياسية وإقتصادية خانقة، فرئيس إقليم كردستان مثلا الذي يدعو إلى إستقلال إقليم كردستان، قد فقد شرعيته بموجب دستور الإقليم ذاته بعد أن نفدت مدة إشغاله للموقع المحددة بأربعة سنوات قابلة للتمديد لمرة واحدة فقط ، وبرغم ذلك ما زال مصرا على البقاء في منصبه رغم معارضة البرلمان الكردي، مما حدى به إلى تعطيل البرلمان ومنع معارضيه بما فيهم رئيس البرلمان من دخول أربيل، وتعطيل عمل حكومة الإقليم.
ولم يتمكن الإقليم من صرف رواتب موظفيه في الكثير من الأحيان. ولو قدر لدولة كردستان أن ترى النور، فهل يمكنها يا ترى أن تستمر طويلا أم أن مصيرها سيكون كمصير سابقتها جمهورية مهاباد في إيران، لما لذلك من تداعيات على دول الجوار في تركيا وإيران وسورية المضطربة أساسا، نظرا لوجود ملايين الأكراد في هذه الدول المحرومين من أبسط حقوقهم القومية، ومحاولة حكومات هذه البلدان صهرهم منذ أمد طويل بمجتمعاتها وإنكار وجودهم القومي في البعض منها، فضلا لما ينجم عن ذلك من تطهير عرقي للعرب والتركمان وغيرهم الساكنين في مدن محافظة كركوك ومدن المحافظات الأخرى التي ضمت قسرا إلى الإقليم خلافا للدستور ،حيث لا يتوقع قبولهم لمشروع الدولة الكردية. وقد بدت ظاهرة ذلك واضحة للعيان من الآن بتزايد إغتيال بعض الشخصيات التركمانية المعروفة في مدينة كركوك، وقبلها الصدامات المسلحة في مدينة طوزخرماتو ذات الأغلبية التركمانية، وعدم السماح للكثير من العوائل العربية النازحة من قراها ومدنها في محافظة ديالى ومحافظة نينوى بالعودة لمساكنها بعد تحرير مدنهم وقراهم من قبضة عصابات داعش بدعاوى أمنية.
وخلاصة القول أن العراق وطن الجميع بعربه وكرده وتركمانه واشوريه وسريانه وكلدانه بمختلف أديانهم وطوائفهم، ينبغي على الجميع صيانة حرمته وحفظ وحدته وسيادته، وهذا يتطلب تضافر جهود كل الخيرين لنبذ الفرقة والتناحر، وتعميق أواصر المحبة على أساس المواطنة الحقة والولاء للعراق أولا وأخيرا، والتسامي فوق الهويات الفرعية. وهنا لابد أن نؤكد أن من حق العرب والكرد وسواهم تقرير مصيرهم وطريقة حياتهم بالطريقة التي يرونها مناسبة، إلاّ أن ممارسة هذا الحق لا ينبغي أن تكون على حساب غمط حقوق الآخرين ممن شاركوهم العيش المشترك في كنف وطن واحد آلاف السنين، وأن لا يكون سببا لخلق مشاكل وفتن فيما بينها قد يكون لها اول ولكن لن يكون لها آخر، بمعنى أن تمارس الحقوق في إطار القانون وإبسلوب هادئ من الحوار الموضوعي الهادف بعيدا عن التعصب والمغالاة لضمان لكل ذي حق حقه. وأن لا يكون سببا للمزيد من الصراعات الإقليمية في المنطقة، مما يتطلب ضرورة التفاهم مع دول الجوار وبخاصة أن منطقة إقليم كردستان منطقة مغلقة ليس لها أية منافذ خارجية للتواصل مع دول العالم الأخرى. ولا يمكن تحقيق ذلك ما لم يعود الأمن والإستقرار لجميع مناطق العراق وتسترد الدولة العراقية هيبتها وكرامتها بحيث تكون دولة ممثلة لجميع العراقيين على أساس المواطنة والهوية العراقية، ويشعر المواطن العراقي بانه عزيز كريم في بلده لا يبحث عن ملاذات آمنة في بلدان العالم الأخرى، تحميه من عصابات الإرهاب ومافيات الفساد التي باتت تتحكم في رقاب العباد والبلاد، ويشعر الجميع بأنهم متساوون بالحقوق والواجبات، يمكنهم ممارسة حقوقهم بأمن وأمان ليقرروا مصير بلادهم وتوجهات حكومتهم، لا مجرد قطيع يساق إلى حلبة إنتخابات أقل ما يقال عنها أنها لعبة تتحكم فيها حيتان الفساد، ونأمل أن يعي العراقيون حقيقة حكامهم الفاسدين الذين جلبوا الويل والعذاب والفاقة والحرمان لهم، ويمارسوا دورهم بفاعلية وحكمة بإختيار من يمثلهم لضمان العيش الكريم والأمن والإستقرار لهم بعد أن إكتوا بنار الفساد والإرهاب على مدى نحو عقدين من الزمان، وبعدها يكون لكل حدث حديث. ومن الله التوفيق.