لم يشهد قطاع التربية والتعليم في العراق منذ تأسيس دولته الحديثة في مطلع القرن المنصرم تدهورا حادا وفوضى عارمة كالتي يشهدها حاليا منذ غزوه وإحتلاله عام 2003، وذلك بسبب خضوعه لنظام الطائفية السياسية المقيت الذي قضى بتسليم وزارة التربية لمكون طائفي معين مقابل تسليم وزارة التعليم العالي والبحث العلمي للمكون الطائفي الآخر، وهما يتبادلان الأدوار في أعقاب كل دورة إنتخابية. يقوم كل وزير بإحاطة نفسه بكوادر معظمها من جنس مكونه الطائفي السياسي fليستبدلها فيما بعد وزير المكون الطائفي الآخر عند إستلامه الوزارة بكوادر من جنس طائفته هو الآخر، مما يعني أولا عدم إستقرار الكوادر القيادية في الوزارة، وثانيا أن إختيار هذه الكوادر لا يتم في الغالب على أساس الكفاءة العلمية والإدارية حتى من الطائفة نفسها، بل أساس المحسوبية والمنسوبية والولاء الحزبي الطائفي، والأدهى من ذلك كله إفتقارها إلى الخبرة المهنية إذ يغلب على الكثير منها حداثة التخرج وعدم التدرج في السلم الوظيفي الجامعي. فلا عجب أن يشهد قطاع التربية والتعليم تخبطا واضحا في مسيرته وبرامجه نظرا لإفتقاره إلى الستراتيجية التربوية والتعليمية الواضحة التي تفترض التكامل بين التربية والتعليم كونهما يشكلان إمتدادا بعضمهما للبعض الآخر، بينما ما نشهده حاليا ثمة تقاطعا حادا بينهما.
كان يفترض أن تستفيد الوزارتان من الخبرات المتراكمة لدى كبار الأساتذة الجامعيين والتربويين العراقيين ممن هم داخل العراق أو خارجه، لتوظيفها لرسم سياسات وبرامج قطاع التربية والتعليم بعيدا عن أية إعتبارات لا صلة لها بالتربية أو التعليم.
كما يلاحظ ضعف الإستفادة من برامج المؤسسات الدولية التربوية والعلمية وجامعات الدول المتقدمة لاسيما أن قطاع التربية والتعليم قد عانى عزلة شديدة من جراء الحصار الظالم الذي فرض على العراق أكثر من عقد من الزمان، برغم كثرة زيارات كبار المسؤلين للكثير من دول العالم دون أن تسفر عنها أية نتائج علمية أو تربوية ملموسة.
يلاحظ أن الجامعات العراقية تخرج حاليا أفواجا من أنصاف المتعلمين الذين يصعب الإفادة من مؤهلاتهم، وبذلك فهي تسهم بتفاقم مشكلة بطالة الخريجين التي هي الأعلى في عموم المنطقة، لاسيما أن العراق يعاني من توقف معظم مصانعه ومعامله، وتدهور قطاعه الزراعي والخدمي، إذ بات يعتمد في معيشته على إستيراد جميع متطلبات حياته من مأكل وملبس ودواء وغيره من دول الجوار والدول الأخرى حيث أصبح العراق سوقا رائجة لمنتوجاتها، والأمر في كل ذلك أن بعضها لا يصلح للإستهلاك البشري، ناهيك عن تسرب التلاميذ من المدارس في سن مبكر دون أن ينالوا قسطا من التعليم، وبذلك تفشت الأمية في العراق بمعدلات مخيفة بعد أن كان العراق قد قضى عليها نهائيا في عقد السبعينيات من القرن المنصرم وإستحق بذلك عن جدارة جائزة اليونسكو للتربية والثقافة والتعليم.
تواجه الجامعات العراقية في الوقت الحاضر ضغوطا شتى من جهات كثيرة ولاسباب متعددة، لعل أبرزها محاولات الأحزاب والتجمعات السياسية والدينية، التدخل في شوؤنها والتأثير على قرارتها ومحاولة تسييرها على وفق أهواءها وبما يخدم أغراضها وتوجهاتها تحت ذرائع ومسميات شتى تارة بدعاوى الإصلاح وتارة معالجة أخطاء النظام السابق وهي تسعى لفرض إدارات معينة لتحقيق أغراضها بصرف النظر عن مؤهلات وقدرات هذه الإدارات، إنما الشيء المهم ولاءها لهذه الجهة أو تلك واستعدادها لمسايرة توجهاتها. وهو أمر يتطلّب معالجته بموضوعية وشفافية عالية وبما يخدم أهداف التعليم العالي التي هي بالأساس أهداف عموم المجتمع لتحقيق نهضته ورقيه بوتائر تقدم عالية.
كما يواجه التعليم العالي ضغطاً شديداً بسبب زيادة تكاليف التعليم العالي من جهة وقلّة تخصيصاته المالية من جهة أخرى، لاسيما بعد إنخفاض عائدات النفط وزايادة أعباء نفقات محاربة الإرهاب، ناهيك عن عمليات سلب ونهب المال العام التي ما زالت مستمرة حتى يومنا هذا، مما يتطلّب إيجاد منافذ تمويلية مساندة للتخصيص المالي الحكومي، وإعتماد أساليب تعليمية جديدة بالإفادة من تقانات المعلومات والإتصالات التي إعتمدتها دول كثيرة في مشارق الأرض ومغاربها. وكذلك التفكير الجدي بإستحداث جامعات خاصة أو أهلية رصينة لا تتحمل الدولة أي من نفقاتها، وعلى أن تخضع هذه الجامعات لمعايير التعليم العالي في بلادنا، وبما لا يتعارض مع قيم أمتنا وثوابتها الأخلاقية والدينية بأية حال من الأحوال. بينما ما نلاحظه الآن إنتشار كليات وجامعات أهلية لاتمتلك أبسط مقومات التعليم الجامعي، وهي أقرب إلى حوانيت لبيع الشهادات الجامعية دون رقيب أو حسيب. ولكي ينهض التعليم العالي في بلادنا الى مصاف مثيلاته في الدول المتقدمة لابد أن تشهد الجامعات والمؤسسات التعليمية المزيد من أجواء الحريات الأكاديمية، وإعتمــاد أساليب الحوار الديمقراطي المثمر والبناء وتفعيل صيغ العمل المؤسسي الجامعي في جميع مفاصل العملية التعليمية والتربوية والأكاديمية بعيداً عن أية مداخلات أو تأثيرات خارجية، وإنتقاء الإدارات الجامعية على وفق معايير واضحة ومحددة، أساسها الكفاية والمقدرة والتمييز العلمي والنزاهة والقدرة على إتخاذ القرارات، لا سيما في الظروف الصعبة والمعقدة التي تمر بها بلادنا في الظروف الراهنة التي بات يختلط فيها الشأن الخاص بالشأن العام، ويزداد الحديث عن الفساد الإداري والمالي في جميع مفاصل الحياة دون أن يحرك أحد ساكناً على الرغم من إستحداث مؤسسات التفتيش في كل وزارة ومؤسسة النزاهة العامة التي قيل أنها مستقلة عن المؤسسات الحكومية، هذا فضلا عن ديوان الرقابة المالية الذي أسس منذ سنين طويلة، ولا عجب في ذلك طالما أن بلادنا تشهد حاليا فوضى عارمة وحالة أمنية غير مستقرة، وإنهيار تام في القيم والأخلاق الحميدة والأعراف السليمة. لذا فإن الحفاظ على المؤسسات التعليمية وفي مقدمتها الجامعات تصبح مسألة خطيرة وفي غاية الأهمية، ينبغي أن تتضافر الجهود الخيرة لحمايتها من كل مفسد وعابث، ذلك أن إنهيارها، إنما يعني انهيار القيم والمبادئ الإنسانية والحضارية في بلادنا التي نأمل إزدهاراها وتقدمها في كل الظروف والأحوال، فبلادنا بلاد علم وأدب وحضارة إنسانية راقية قدمت للإنسانية الكثير من العلوم والمعارف وستبقى كذلك بعون الله متجاوزة كل المحن والصعاب.
فالعراق كما هو معروف مهد الحضارة الإنسانية، وإليه يعود الفضل في إختراع الكتابة في مدينة الوركاء السومرية، وما تلاها من إنجازات علمية رائعة في شتى المجالات وعلى مدى الحضارات العراقية القديمة في بابل سومر وأكد وبابل وآشور، وما أعقبتها من حضارات عربية وإسلامية راقية في بلادنا مازالت آثارها شاخصة حتى يومنا هذا.
وفي الختام نقول أن قطاع التربية والتعليم بحاجة إلى وقفة وطنية جادة لإنقاذها من محنته الحالية، يشارك فيها كبار التربويين والجامعيين وقطاعات مجتمعية واسعة، ذلك أن التربية والتعليم ركنان أساسيان لنهضة أية أمة وتقدمهما، وبدونهما لا يمكن تحقيق أي تقدم يذكر.