لم يعد مفهوم التنمية محصورا بزيادة معدلات دخل الأفراد فقط، بل أصبح الآن أكثر شمولية لعناصر الحياة العصرية من صحة وتعليم وبيئة مناسبة ورفع مستويات معيشة المواطنين، وتطوير مفاصل الاقتصاد المختلفة، والاستفادة من الثروات الطبيعة لتنمية جميع مناطق البلاد دون إلحاق أضرار فادحة بالبيئة.تتناول هذه الدراسة موضوع التنمية المعرفية المستدامة بوصفها أهم مكونات التنمية البشرية المستدامة التي بدونها لا يمكن تحقيق تنمية صحيحة لأي بلد من البلدان. ولكي تكون التنمية المعرفية مجدية ونافعة لمجتمعاتها، لابد أن ترتبط بحاجات بلدانها وتوفير فرص العمل لأبنائها. أصبحت المعرفة في الوقت الحاضر أحد أهم عناصر الإنتاج في الاقتصاد المعاصر. عليه يصبح توليد المعرفة واستعمالها أمرا ضروريا للتنمية. يقصد بالمعرفة هنا المعرفة العلمية والتقنية، إذ أن الدول متباينة في امتلاكها لهذه المعرفة فالدول الصناعية لديها مخزون معرفي هائل جدا، بينما لا تمتلك معظم الدول النامية إلا قدراً متواضعاً من هذه المعرفة، لذا فقد نجم عن هذا التباين ما يعرف بفجوة المعرفة أي الفروقات بين الدول بامتلاكها المعلومات والمعارف العلمية والتقنية، وبالتالي الفروقات في قدراتها على توظيف هذه المعارف لتحقيق التنمية في البلدان المختلفة في شتى مجالات الحياة. أصبحت المعلومات والمعرفة أحد أهم مصادر القوة في عصرنا الراهن، وقد تفوق في أهميتها مصادر الثروة الطبيعية ورأس المال وقوة العمل، أو في أحسن الأحوال. فأنها لا تقل عنها أهمية بتحقيق التنمية والتطور لأي بلد من البلدان الأمر الذي يتطلب بذل جهود حثيثة بكل الوسائل الممكنة لامتلاك المعرفة وبناء مجتمع المعرفة لتحقيق وتأثر التقدم والازدهار.
يقصد بمجتمع المعرفة على وجه التحديد انه ذلك المجتمع الذي يقوم أساسا على نشر المعرفة وإنتاجها، وتوظيفها بكفاية في جميع مجالات النشاط المجتمعي: الاقتصاد والمجتمع المدني والسياسة، والحياة الخاصة، وصولا لترقية الحياة الإنسانية باطراد، أي إقامة التنمية الإنسانية الشاملة، ويزداد عدد العاملين في منظومة المعرفة، ونصيبهم من قوة العمل، وترتفع نسبة وقت العمل المخصص للنشاطات المعتمدة على كثافة المعرفة. تعد المعرفة عنصر جوهري من عناصر الإنتاج ومحدد أساسي للإنتاجية، بمعنى انه ثمة تضافر قوي بين اكتساب المعرفة والقدرة الإنتاجية في المجتمع، ويزداد هذا التضافر قوة في النشاطات الإنتاجية ذات القيمة المضافة العالية والتي تقوم، وبدرجة متزايدة، على كثافة المعرفة والتقادم المتسارع للمعارف والقدرات.هذه النشاطات هي مرتكز القدرة التنافسية على الصعيد العالمي، وهي من ثمة أحد المداخل للتنمية في البلدان العربية.يلعب التعليم عامة والتعليم العالي والبحث العلمي خاصة دورا مهما في تنمية مجتمعات المعرفة، لذا فقد أولتهما الدول المختلفة اهتماما بليغا من خلال الاستثمارات المالية الكبيرة في هذه القطاعات والتأكد من مردوداتها الاقتصادية المؤثرة في تنمية مجتمعاتها وتحقيق فرصاً أفضل في المنافسة مع الدول الأخرى في جميع المجالات.
تعد فجوة المعرفة أحد أهم مؤشرات تقدم ورقي وتطور المجتمعات في عصرنا الراهن، الأمر الذي يتطلب بذل جهود حثيثة لغلقها، أو في الأقل عدم السماح باتساعها إلى حدود يصعب معها غلقها في المراحل اللاحقة.
يشير السيد جيمس ويلفنسون أحد رؤساء البنك الدولي السابقين في أحد تعليقاته أن أحد أسباب فقر الناس هو عدم قدرتهم على منافسة الآخرين لافتقارهم إلى المعرفة. وتشير الوقائع إلى اتساع فجوة المعرفة بين الدول الصناعية والدول النامية أكثر فأكثر في وقتنا الحاضر وذلك بسبب ازدياد القيود التي تفرضها الدول الصناعية على انتقال المعلومات والمعرفة إلى الدول النامية بدعاوى حماية الملكية الفكرية أحيانا, أو بدعاوى محاربة الإرهاب أحيانا أخرى والتي ازدادت حدتها في السنوات الأخيرة، وحجبها عن فئات بعينها لحرمانها من الإفادة منها في رقي شعوبها وتقدمها في الوقت الذي يشهد فيه العالم تدفقا معرفيا هائلا في شتى العلوم والمعارف. لقد أصبحت المعرفة العلمية والتقنية في الكثير من الأحيان سلعة تجارية لا يمكن الحصول عليها إلّا بعد دفع ثمنها إلى مالكيها الذين يحرصون اشد الحرص على احتكارها وعدم بيعها إلا وفق شروطهم الخاصة، الأمر الذي يتطلب تضافر جهود مفكرينا ومبدعينا لتنمية المعرفة العلمية والتقنية وتبادل الخبرات لتوظيفها لأغراض رقي وتقدم مجتمعاتنا الناهضة. ولتحقيق هذا الغرض لا بد من إعادة نظر شاملة وجادة في مؤسساتنا التعليمية والبحثية لتكون بحق مصدر إثراء للمعرفة العلمية والتقنية التي يمكن توظيفها في مجالات الإنتاج الصناعية والزراعية والاقتصادية، والعمل الدءوب على تراكم هذه المعارف لبناء الخبرات الوطنية المتقدمة إذ لم تعد هناك قيمة تذكر لعلوم أو معارف لا ترتبط بصورة أو بأخرى باحتياجات مجتمعاتها.
وتعد الحاضنات التقنية أحد أهم وسائل ربط المعرفة العلمية بجوانبها التطبيقية، وتعد المجمعات العلمية أحد أهم البيئات التي تنمو وتزدهر فيها المعرفة العلمية، وتتوفر لديها فرص تحويلها إلى منتجات صناعية وسلع تجارية الأمر الذي يتطلب ايلائها اهتماما خاصا والتفكير الجاد والعمل على استحداثها بأسرع وقت ممكن. تمتاز مجتمعات المعرفة بأنها مجتمعات رقمية أي أنها مجتمعات تعتمد تقانات المعلومات والاتصالات في مناحي حياتها المختلفة إلى الحد الذي بات مواطنيها يعرفون بالمواطنين الرقميين، كما تعرف هذه المجتمعات أحيانا بالمجتمعات الرقمية المتواصلة، ويقصد بذلك المجتمعات المرتبطة جيدا بشبكات المعلومات والقادرة على توظيفها لأغراض التنمية الشاملة، إذ يلاحظ إن هناك تبايناً واضحاً في قدرات الدول فيما يتعلق بامتلاك تقانات المعلومات وفي القدرة على توظيفها لغايات ومقاصد علمية وثقافية واجتماعية واقتصادية وغيرها من جهة، كما يلاحظ ان هناك تبايناً واضحاً في قدرات الإفراد والجماعات داخل البلد الواحد نفسه من جهة أخرى، فعلى مستوى الدول يلاحظ أن الدول الصناعية في أوربا واليابان وأمريكا الشمالية وبعض أقطار جنوب شرقي آسيا أوفر حظاً بامتلاك تقانات المعلومات وأكثر قدرة على توظيفها لأغراضها المختلفة، بينما لا تمتلك الدول النامية إلا النزر اليسير من هذه التقانات والتي تنعكس سلباً على قدرتها بالإفادة منها بصورة فاعلة ومؤثرة لصالح أغراضها المختلفة، أما على صعيد الدول بصورة منفردة فانه يلاحظ أن الفئات العمرية دون سن الأربعين سنة في جميع دول العالم هي الأكثر تعاملاً مع تقانات المعلومات المختلفة، وان سكان المدن اكثر استعمالاً لتقانات المعلومات من سكان الأرياف، وان الأغنياء عموماً أكثر استعمالاً لها من الفقراء في كل زمان ومكان.
ومن هنا فقد برز مصطلح الأمية الحاسوبية والذي يقصد به عدم قدرة الأفراد على التعامل مع الحواسيب بأي شكل من الإشكال، والذي تطور في السنوات الأخيرة إلى مصطلح الفجوة الرقمية ليؤشر مدى التباين في القدرة على التعامل مع الحواسيب وتقانات المعلومات وشبكاتها المحلية والدولية والإفادة منها في مختلف شؤون الحياة بين الدول المختلفة من جهة وبين فئات المجتمع الواحد في البلد الواحد من جهة أخرى، واعتبارها مؤشراً على مدى الرقي والتقدم.