من المعروف ان تداول السلطة في الدول الديمقراطية يتم عبر أصوات الناخبين في صناديق الإنتخابات التي تجرى في أوقات معينة بحسب قوانين تلك البلدان، حيث يتولى السلطة الحزب الذي يحضى بغالبية أصوات الناخبين كما هو حاصل في بريطانيا مثلا، أعرق البلدان ديمقراطية حيث يتناوب حزبا المحافظين والعمال على السلطة بين حين وآخر بحسب النتائج الإنتخابية في كل مرة، وفي حالة تعذر حصول أيا منهما على غالبية الأصوات بمفرده، فإنه يضطر إلى تشكيل تحالف أغلبية مع حزب آخر أو أكثرعلى وفق توافق سياسي يضمن لكل حزب حصته في التشكيل الوزاري الذي سينبثق عن هذا التحالف المسند بغالبية أعضاء مجلس النواب، لتيسير عمل الحكومة كما هو حاص في بلدان كثيرة منها أستراليا وإيطاليا وإسرائيل حيث غالبا ما تشكل حكوماتها من تحالفات حزبية مختلفة. وهذ أمر طبيعي، إذ بخلافه ستتعطل أمور البلاد والعباد وتعم الفوضى والكساد.
وهنا لا بد من الإشارة إلى مسألة جوهرية وأساسية، هي أن الأحزاب السياسية في تلك البلدان هي تنظيمات سياسية تسعى لتحقيق أهدافها بالوسائل السليمة لمصلحة عموم الناس على وفق رؤيتها الخاصة، أي أنها ليست معنية بمصلحة فئة دينية أو طائفية أو أثنية معينة. فحزب المحافظين الحاكم حاليا في بريطانيا مثلا، يضم في صفوفه وقياداته أعضاء من الإنجليز والأسكتلنديين والأيرلنديين والويلزيين وسواهم من سكان بريطانيا بما فيهم المهاجرين أيا كانت أصولهم ومعتقداتهم، وكذا الحال بالنسبة لحزب العمال المعارض وحزب الأحرار والأحزاب الأخرى.
ولا يختلف الحال في البلدان الديمقراطية الأخرى في مشارق الأرض ومغاربها. وبذلك تكون الأغلبية السياسية هذه البلدان في جميع الأحوال بصرف النظر عن الحزب الفائز ممثلة لعموم الشعب، وكذا الحال بالنسبة للمعارضة وأن لم تكن لديها الأغلبية السياسية فهي الأخرى ممثلة لعموم الشعب، وقد تنقلب الأدوار فمن هو في الحكم الآن قد يصبح في المعارضة في إنتخابات أخرى، فليس هناك قلق من عدم تمثيل الحكومة أو المعارضة عموم الناس في جميع الأحوال بحسب ما تقرره صناديق الإنتخابات.
أما الحالة السياسية العراقية التي إنبثقت في أعقاب غزو العراق وإحتلاله عام 2003، فإنها مختلفة تماما عما هو معمول به في البلدان الديمقراطية، ذلك أن النظام السياسي الذي أرسىت قواعده الإدارة الأمريكية المحتلة وكرسه الدستور العراقي الذي شرع تحت وطأة الإحتلال، قائم على أساس المحاصصة الطائفية والأثنية بدعوى ضمان حقوق كل طائفة وأثنية ومنع هيمنة أيا منها على الطوائف والأثنيات الأخرى، بحيث يتعذر تشكيل أية حكومة دون توافق جميع أحزاب الطوائف والأثنيات أو معظمها في الأقل.
ولو ان الأمر إقتصر على مبدأ المحاصصة بحيث يمثل كل طائفة وأثنية ممن هم من ذوي الكفاءات المهنية من أهل الخبرة والإختصاص المشهود لهم بالنزاهة، أو في الأقل ساسة همهم خدمة الصالح العام، يعاونهم خبراء مهنيين من ذوي الكفاءة والخبرة والنزاهة، لهان الأمر وربما كان حال العراق غير حاله الآن حيث يعم الفساد والخراب في كل مكان.
لذا فإن مناداة بعض قادة الأحزاب الذين تولوا قيادة العراق على مدى السنوات الخمسة عشرة المنصرمة، بالأغلبية السياسية في الوقت الحاضر كمخرج لإنتشال العراق من مأساته التي كانوا هم أنفسهم المسؤولين عنها بالدرجة الأساس، إنما هي مناداة عبثية وغبية في آن واحد يراد بها الضحك على الذقون بإيهام الناس بأنهم دعاة إصلاح وليسوا مسؤولين عما حل بالعراق من خراب ودمار وإستشراء الفساد في كل مفاصل الدولة التي هم وحدهم يتحكمون بها، ومحاولة تبرير عجزهم وعدم قدرتهم على إدارة دولة قدمت لهم على طبق من ذهب، وجدوها أكبر حجما وتعقيدا من قدراتهم المتواضعة، وجدوا فيها فرصة ذهبية للثراء السريع ونهب المال العام.
أن الأغلبية السياسية في ظل النظام السياسي القائم حاليا في العراق، إنما تعني تكريس هيمنة أحزاب طائفة معينة وحرمان أحزاب الطوائف الأخرى من المشاركة في إدارة بلدهم بصورة فاعلة ومؤثرة، لا بسبب جودة برامج هذه الأحزب، بل لكبر حجم الطائفة التي يثيرون مشاعرها الطائفية، لاسيما أن هذه الأحزاب تملك السلطة والمال والسلاح وتحضى بدعم إقليمي.
وبعبارة أخرى يمكن أن تؤسس لنظام دكتاتورية الأحزاب السياسية الطائفية.
ورب قائل يقول: أن الطوائف والأثنيات سوف يضمن لها المشاركة عبر إستيزار عدد من الوزراء وتعيين عدد آخر في بعض المناصب الحكومية العليا من تلك الطوائف والأثنيات، وبذلك تتم مشاركة الجميع وضمان حقوقهم.
وفي حقيقة الأمر أن هؤلاء المعينين بهذه الطريقة لن يكون لهم حول أو قوة في رسم سياسة البلاد وتحديد توجهاتها ومساراتها.
ومن يراجع تشكيلات الحكومات العراقية منذ تشكيل دولة العراق الحديث في العام 1921 وحتى يومنا هذا، يلاحظ أنها لم تخلوا من مشاركة جميع الطوائف والأثنيات فيها، فهناك وزراء ورؤساء وزراء من العرب والكرد والتركمان ومن السنة والشيعة والمسيحيين وغيرهم، وكذا الحال في المناصب الحكومية العليا وتشكيلات القوات المسلحة والأمنية بصنوفها المختلفة، ولكن بنسب متفاوتة حيث يغلب عليها هيمنة طائفة معينة لأسباب معينة لا مجال للخوض بتفصيلاتها بهذه الدراسة المقتضبة، لعل في مقدمتها حرص هذه الأنظمة على أمنها وديمومة مصالحها وبقائها، وبخاصة أنها أنظمة إستبدادية قائمة أساسا على القوة.
أن خلاص العراق من مأزقه السياسي الراهن يكمن بإعادة نظر شاملة وجادة بمجمل نظامه السياسي برمته، بدءا بكتابة دستور جديد يحدد شكل دولة العراق وهويته الوطنية بصورة واضحة لا لبس فيها، ويضمن حقوق جميع العراقيين وحرياتهم على أساس المواطنة العراقية بصرف النظر عن معتقداتهم وإنتماءاتهم وأثنياتهم بشرط عدم المساس بأمن البلاد والعباد، وتشريع قانون إنتخابي جديد يقوم على جعل العراق مناطق إنتخابية متعددة وليس منطقة إنتخابية واحدة كما هو معمول به في أكثر البلدان الديمقراطية، بحيث يقوم مواطنو كل منطقة بإنتخاب مرشحيهم بصورة مباشرة بدلا من إنتخاب قوائم حزبية يختفي وراءها الكثير من الفاسدين كما هو الحال الآن، وتحديد صلاحيات رئيس إقليم كردستان وحكومته ومجلس نوابه، وحسم موضوع ما يعرف بالمناطق المتنازع عليها في كركوك والمناطق الأخرى، وتحريم العمل السياسي الطائفي والأثني بحيث تكون الأحزاب السياسية جامعة شاملة لجميع فئات وأطياف وقوميات الشعب العراقي المختلفة.
وتحريم العمل السياسي في صفوف القوات المسلحة بأنواعها وأشكالها وتصنيفاتها المختلفة، وتوحيد هذه القوات في جيش عراقي واحد يكون مسؤولا عن أمن وحماية حدود العراق من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه، وحصر السلاح في أيادي االجهات العسكرية والأمنية فقط، وتطهير أجهزة الدولة وفي مقدمتها أجهزة القضاء والتعليم من جميع الفاسدين والمفسدين وإحالتهم للقضاء العادل ليقول فيهم كلمة الفصل، وعدم ترويج النزعات العشائرية وعدم السماح بأن تحل أعرافها المتوارثة بديلا لأحكام القوانين المدنية المتحضرة، وإبعاد العراق عن محاور الصراعات الإقليمية والدولية قدر المستطاع، والكف عن نبش أحقاد الماضي وإثارة الكراهية بين الناس، ويكون الولاء للعراق دون سواه، والتطلع لبناء مستقبل زاهر وبناء يليق بالعراق وشعبه بوصفه مهد الحضارات الإنسانية الراقية.
وعندها يصبح الحديث عن الأغلبية السياسية ممكنا ومعقولا لبناء نظام سياسي حر ومستقر يضمن للعراق أمنه وإستقراره ويعيش شعبه حياة حرة كريمة متمتعا بخيراته الوفيرة التي حباه الله بها، وبخلافه يكون الحديث عبثيا لا معنى له سوى إستغفال الناخبين والضحك على ذقونهم.