بينما تتقدم دول العالم المختلفة في مشارق الأرض ومغاربها إلى الأمام نحو التقدم والإزدهار بخطوات واعدة، لتخليص شعوبها من براثن التخلف العلمي والحضاري وتضييق الفجوة التقنية بينها وبين الدول الأخرى وتحقيق مستويات معيشية لائقة لشعوبها وتتطلع إلى مستقبل أفضل بإمتلاكها ناصية العلم. نرى في المقابل العراق بلد الحضارة والإبداع يتراجع إلى الوراء ليعيش شعبه شظف العيش المرير برغم كل ما حباه الله من خير ونعيم، وإمتلاكه كل أسباب الرقي والتقدم لو تهيأت له حكومات رشيدة.
فعراق اليوم يعيش في دوامة أزمات لا مبرر، لها سوى سوء إدارة حكامه وفسادهم وجشعهم.
سنسلط الضوء هنا على واحدة من هذه الأزمات المتمثلة بالنقص الحاد في الطاقة الكهربائية عصب الحياة المعاصرة، في الوقت الذي يعزى فيه اكتشاف التيار الكهربائي إلى العراقيين القدامى بصنعهم اول بطارية كهربائية اطلق عليها الاثاريون اسم بطارية بغداد.
ففي العام 1938، بينما كان يعمل في خوجه رابو بالقرب من مدينة بغداد اكتشف العالم الالماني ويلهيلم كونيغ جرة من الفخار طولها 15 سم يوجد فيها اسطوانة من النحاس تضم قضيباً من الحديد، وكشفت دراسة الجرة انه كان فيها خل او خمر.
ولم يضيع كونيغ وقته في البحث عن شرح لما يمكن ان يكون الهدف من الجرة التي عثر عليها، فقد اطمأن ان الجرة لم تكن الا بطارية كهربائية، وقد اكتشف ( 12) بطارية من هذه البطاريات.
ويقول الدكتور بول كرادوك المسؤول في المتحف البريطاني: ان البطاريات جذبت كثيراً من الاهتمام، وهي بالغة الأهمية.
وتقول المصادر ان تاريخ هذه البطاريات يعود الى حوالي 200 سنة قبل الميلاد. ومن المؤكد أن هذه البطاريات يمكن ان تولد تياراً كهربائيا، لانه تبين ان بطاريات مماثلة حديثة انتجت تيارات كهربائية.
يعتقد البعض ان البطاريات كانت تستعمل في المجال الطبي فقد كتب الأغريق القدامى عن تخفيف الالم الناتج عن تأثير الأسلاك الكهربائية عندما توضع هذه الأسلاك على القدميين، ولا يزال الصينيون يستعملون الابر الصينية مصحوبة بتيار كهربائي. وهذا قد يفسر وجود ابر بالقرب من بغداد.اكتشف العراقيون الخلايا الكهربائية سنة 200 قبل الميلاد، والتي لم تكتشف الاّ بعد الفي سنة من اكتشافها في العراق.
واليوم يعاني العراق ومنذ نحو ثلاثة عقود من إزمة حادة بإنتاج وتوزيع الطاقة الكهربائية بسبب ما تعرض له من حروب وصراعات مسلحة حادة، نجم عنها تدمير العديد من محطات توليد الطاقة الكهربائية وشبكات نقلها ، كان أخطرها ما تعرض له في العام 1991 حيث دمرت قوات ما يعرف بقوات التحالف الدولي الذي قادته الولايات المتحدة الأمريكية لتحرير الكويت بحسب هدفها المعلن، معظم بنى العراق التحتية من جسور وطرق ومؤسسات صناعية وعلمية وإنتاجية مختلفة، كانت مؤسسات توليد الطاقة الكهربائية وشبكات توزيعها في مقدمتها، لا لسبب يمكن أن يكون ذا علاقة بمجهودها الحربي المعلن بتحرير الكويت، إنما بدافع الحقد والكراهية والرغبة الجامحة لتدمير قدرات العراق العلمية والعسكرية لتجاوزه الحدود المسموح بها لدولة نامية بإمتلاك قدرا من التقنية الذاتية المتطورة، مما إستوجب إعادته إلى عصر ما قبل الصناعة كما صرحوا بذلك على لسان وزير الخارجية الأمريكي يومذاك جيمس بيكر.
ولأن العراق ما زال قويا ومقتدرا ومتماسكا برغم ما لحق به من خسائر فادحة، فقد أستطاع بجهوده الذاتية وفي ظروف الحصار القاسية التي حرمت الشعب العراقي من أبسط مسلتزمات حياته، إعادة بناء الكثير من مرافق حياته الحيوية وفي مقدمتها مرافق الطاقة الكهربائية بصورة أو بأخرى.
واليوم وبعد مضي خمسة عشر عام على إستلام حكام العراق الجدد السلطة وفي ظروف مالية ميسرة ودعم دولي كبير جدا، وصرف مليارات الدولارات لإعمار ما دمرته آلة الحرب والعصابات التكفيرية التي سهلت دخولها القوات الغازية إلى العراق بترك منافذه الحدودية سائبة دون رقيب، ما زال العراق يعاني من أزمة كهربائية حادة، لا لسبب سوى إستشراء الفساد في مفاصل الدولة المختلفة وهدر المال العام في مشاريع وهمية لا وجود لها دون حسيب أو رقيب، وسوء إدارة وقلة خبرة حيث أستوردت محطات لا يتوفرلبعضها وقود تشغيلها في العراق ما لم يتم إستيراده من إيران، وكأن العراق ليس بلدا منتجا للطاقة، والمضحك المبكي هنا أن رئيس الوزراء يومذاك ونائبه لشؤون الطاقة راحوا يتبادلون التهم فيما بينهم علنا ودون حياء عبر وسائل الإعلام عن مسؤولية ذلك، وأخرى تركت في العراء ليأكلها الصدء، لعدم توفر مخازن لها بسبب عدم البدء بإنشاء مباني هذه المحطات قبل إستيرادها وهذا ما أكده عراب الغزو وأحد أقطاب الطغمة الحاكمة أحمد الجلبي أكثر من مرة عبر وسائل الإعلام المختلفة.
لم يحصد الناس سوى وعود كاذبة لدرجة أن نائب رئيس الوزراء المسؤول عن قطاع الطاقة كان قد صرح في العام 2014 عبر شبكة الإعلام العراقية بأن العراق سيصدر الطاقة الكهربائية الفائضة لديه إلى دول الجوار، وتنقل بعض وسائل الإعلام مرة أخرى تصريحا مماثلا لوزير الكهرباء الحالي بأن العراق سيصدر الفائض من الطاقة الكهربائية إلى سورية عبر برنامج الربط الكهربائي بين البلدين، بينما يعرف القاصي والداني أن العراق ما زال يستورد الطاقة من إيران ،حيث يشير الناطق الرسمي لوزارة الكهرباء نفسها أن حجم الطاقة الكهربائية المستوردة من إيران نحو ( 1300 ) ميغاواط.
ولم تجد نفعا كل محاولات الحكومة البائسة لتقنيين إستهلاك الكهرباء عبر سياسة الخصصة التي تواجه معارضة حادة من معظم القطاعات الشعبية وبخاصة الفئات الفقيرة منها العاجزة عن توفير لقمة العيش لها.
وللوقوف على معدل نصيب الفرد من إستهلاك الطاقة الكهربائية في العراق مقارنة مع البلدان العربية بالكيلو وات ساعة بحسب تقرير وكالة الطاقة الدولية لعام 2014 ، نجد أن نصيب الفرد العراقي متواضعا (1306) كيلو وات ساعة مقارنة بمعدل نصيب الفرد في البلدان العربية (2489) كيلو وات ساعة، ومعدل نصيب الفرد في العالم (3125) كيلو وات ساعة، و (5909) في دول الإتحاد الأوربي و (13244) في أمريكا الشمالية .
وعلى صعيد الدول العربية نجد البحرين في المقدمة (19592) كيلو وات ساعة وتليها قطر(15309 ) والكويت (15213) ودولة الإمارات العربية المتحدة (11264) والمملكة العربية السعودية(9444 ) وسلطنة عمان (6554)، وأدناه السودان (190) كيلو وات ساعة. أكد تقرير دولي أن سوء إدارة قطاع الكهرباء في العراق تسبب بخسائر للاقتصاد بلغت أكثر من ( 300 ) مليار دولارأمريكي.
أدى انقطاع الكهرباء إلى توقف إنتاج النفط في بعض الأحيان بسبب عدم القدرة على تجهيز الحقول النفطية بالطاقة الكهربائية، مما يلحق ضررا بصادرات العراق. يشير خبير إقتصادي إلى أن القطاع الصناعي خسر مليارات الدنانير بسبب توقف المشاريع الصناعية نتيجة استمرار قطع التيار، وقد غادر القطاع آلالاف من أصحاب المهن الصناعية بسبب توقف نحو أربعين ألف مشروع صناعي كبير ومتوسط وصغير عن العمل بسبب انقطاع التيار الكهربائي لساعات طويلة.
ولا تلوح في الأفق القريب بارقة أمل بإنفراج ازمة الطاقة الكهربائية إذا ما إستمرت الجهات المسؤولة عن برامج الطاقة الكهربائية سادرة في غيها وجهلها وفسادها بعيدة عن أية مراقبة أو مساءلة حقيقية وعدم معاقبة المقصرين والفاسدين العابثين بمقدرات البلاد والعباد.